للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعريف الخمر وذكر ضررها]

نبدأ أولاً في معرفة الخمر والميسر، ومنهجنا في التفسير أن الآية هي الحاكمة في طريقة التفسير، فالآيات تختلف فبعضها في العقائد، وبعضها في الأخبار والقصص، وبعضها في التشريع، فلا يعقل أن تتعامل معها جميعاً بطريقة واحدة، وإنما من أوتي حظاً في فهم كلام الله ينبغي أن ينوع الطرائق التي يتناول بها كلام الرب تبارك وتعالى دون أن يخرجه ذلك من علم التفسير، فالبيئة الجاهلية كانت بيئة لا ترجو جنة ولا تخشى ناراً، بل يمشون كما تفرضه العادات والتقاليد والذائع والشائع، والفراغ في الوقت كان أكثر ما يعاني منه الجاهليون، ولهذا انصرفت هممهم إلى اللذات؛ لأن اللذات بها تقضى الأوقات، فكانت الخمر مشروباً ذائعاً عندهم للغني والفقير، ولا يكادون يتركونها في ليل ولا في نهار، وليس أدل على ذلك من أن الصحابة وهم الصحابة مكثوا يشربونها حتى بعد الهجرة، فكان أنس يسقي كبار الصحابة كـ عبد الرحمن بن عوف وأبي أيوب الأنصاري قبل أن تنزل آية تحريم الخمر كما سيأتي.

وهذا يدل على كرامة الله لهذه الأمة، فالله لما علم أن الناس يوم ذاك قد بلغ منهم شرب الخمر مبلغاً عظيماً جاء بالتدرج في تحريمها كما سيأتي.

والخمر في اللغة: ما خامر العقل، أي: خالطه أو غطاه، فالتغطية من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (خمروا آنيتكم) بمعنى غطوها، وتأتي خامر بمعنى خالط، فيخالط السكر العقل فيكاد يغطيه، ولا يكون هناك تغطية إلا بعد مخالطة، قال كثير عزة: هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت فقوله: هنيئاً مريئاً غير داء مخامر، أي: غير دائن مخالط.

ولا نحتاج أن نقول في الخمر: هي مشروب يسكر؛ فلا يكاد يجهله أحد، وفي عصرنا هذا أخذ أنواعاً عدة، لكنه سابقاً كان أكثر ما يأخذونه من التمر ومن الأعناب، وهو من العنب أكثر منه من التمر، قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:٦٦ - ٦٧].

وسيأتي لماذا قال الله: (سَكَراً) وقال: (رزقاً حسناً) بعد قليل، لكن نبقى فيما يؤخذ منه الخمر، وقلنا: إنه يؤخذ من ثمرات النخيل والأعناب.

فإذا شربوها فإن الفقير منهم يرى نفسه غنياً، والجبان منهم يرى نفسه شجاعاً، قال حسان: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداًَ لا ينهنهنا اللقاء وكانت في الشام قصران اسمهما: الخورنق والسدير يضرب بها المثل، كما تقول الآن: البيت الأبيض والكرملن فكانت في أذهان الناس في ثقافتهم أن هذين القصرين لا يدخلهما أحد، فكان الفقير منهم راع الغنم الذي لا يملك شيئاً إلا بضع غنيمات يقول: وإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: وأنا في عالم السكر أذهب في خيالات عدة، فأحسب نفسي صاحباً وملكاً على الخورنق والسدير وهما قصران في الشام، وإذا فقت من سكري وعدت إلى حقيقتي فأنا لا أملك إلا بضع شويهات وبضعة من الإبل أو غيرها.

والمقصود أنهم كانوا يفرون من مشاكلهم وقضاياهم إلى الخمر، ويسمون من يشرب معهم ويحتسي يسمونه: نديماً، ويدار الكأس بينهم، وهذا جل حياتهم، قال الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل نازعتهم قضب الريحان متكئاً وقهوة مزة راووقها خضل فثقافته أنه يريد هؤلاء ألا يعبئوا بشيء، والآن في الثقافة الغربية أكثرهم وإن كان مسيحي الديانة لكن طغت عليهم العلمانية، فزلفت بهم إلى الإلحاد، فلما زلفت بهم إلى الإلحاد ضعف يقينهم بالجنة والنار، فإذا ضعف اليقين بالجنة والنار فإنه لا يبقى إلا التشبث بالدنيا، فهم يعظمون نهاية الأسبوع؛ لأنه إجازة لهم، ويستمتعون بحياتهم على أقصى حد، والذي يدفعه إلى أن يستمتع بحياته إلى أقصى حد إيمانه الخاطئ أنه لا حياة بعد هذه الحياة، فيتشبث بهذه الحياة، فـ الأعشى يقول: وفتية كسيوف الهند يعني: يقصد نحول أجسامهم وتثنيها.

كسيوف الهند قد علموا والمهم عنده: أن هالك كل من يحفى وينتعل أي: أن الناس موتى لا يبقون، فيقول: ثقافتنا تنطلق من قناعتنا أننا سنموت وسنبلى ولن يبقى أحد لا غني ولا فقير، ولا حافي ولا منتعل، فإن كنت أعلم أنني لا أبقى وأنه لا حياة بعد حياتي -فالقرشيون كانوا لا يؤمنون بالبعث والنشور- فعلامَ أنا أحبس نفسي عن متع الدنيا، فيكون هذا دافعاً قوياً لأن يحتسي الخمر، قال: نازعتهم قضب الريحان متكئاً وقهوة مزة راووقها خضل والقهوة كانت تطلق عندهم على الخمر.