[بيان معنى قوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)]
قال تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:٤٣].
السنا -بغير همزة- الرفعة والعلو المعنوي والحسي، والسناء -بالهمزة- اللمعان والضوء والنور، والمقصود به هنا اللمعان والبرق والنور، فأحياناً يجتمع الأمران: السنا المعنوي المقصود به الرفعة، والسناء المقصود به اللمعان.
فأما اجتماعهما فقد ورد في شعر ابن زيدون، وابن زيدون شاعر أندلسي عاصر انتقال الحكم من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وبنو أمية أسسوا ملكهم في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، والذي لقبه بصقر قريش هو خصمه أبو جعفر المنصور، وهذا من إنصاف أبي جعفر.
فاستمر الحكم في الأندلس، ثم انتقل من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وهم مسلمون من غير ذرية بني أمية، وفي تلك الفترة ظهر ابن زيدون، فأصبح وزيراً وهو في الثلاثين من عمره، ومثل هذا ينجم عنه الحسد، فتعلق بامرأة اسمها ولادة بنت المستكفي، فقال فيها أطيب شعره، والذي يعنينا من شعره هنا ما أردناه في قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:٤٣]، حيث قال: ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطا إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسناً رحم الله زماناً أطلعك والبدر هو القمر، وقصد بأخي البدر معشوقته، وقوله: سناءً وسناً، أي: أنت مثل البرق في برقه ونوره ولمعانه، ومثل البدر في علوه وارتفاعه.
فالله تعالى هنا يقول: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} [النور:٤٣].
والعامة تلغز فتقول: ما الشيء الذي يسمع ولا يرى، وما الشيء الذي يرى ولا يسمع؟ ويقصدون بالذي يسمع ولا يرى الرعد، ويقصدون بالذي يرى ولا يسمع البرق، وقد جرت عادة العرب بأنها تشيم، أي: تنظر في البرق، فتقول: أين سينزل، قال الأعشى: فقلت للشرب في درنى وقد ثملوا شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل يقول: أنا مع مجموعة سكارى فرأيت بارقاً.
وهل يا ترى بارقاً عارضاً قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل فقال لمجموعته: شيموا، أي: انظروا إلى هذا البرق أين سيسقط.
ثم يقول مستنكراً حال نفسه: وكيف يشيم الشارب الثمل، يعني: من كان قد غلبه السكر فأنى له أن يشيم ويعرف مواطن البرق.
قال تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:٤٣] واللام في (الأبصار) لام الحقيقة، وضدها لام المجاز، وبيان ذلك أن الله جل وعلا قال في سورة البقرة: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:٢٠] وهناك فرق تام بين الآيتين: فالآية الأولى: أراد الله بها ضرب مثل عن هؤلاء المنافقين الذين يسكنون المدينة ويرون تنزل الآيات فلا ينتفعون بها، ولهذا قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:٢٠] فأضاف الأبصار إليهم، وليس المقصود إلا إظهار عدم انتفاعهم بالكتاب والسنة.
أما آية النور فالله يتكلم فيها بذكر لام الحقيقة، والمراد: البصر الحقيقي الذي هو يخاطب به كل أحد، فكل إنسان إذا تأمل البرق ونظر فيه وأمعن فإنه يكاد سنا البرق أن يذهب ببصره، ولو لم يذهب ببصره؛ لأنها جاءت مثبتة، فتعتبر في حكم المنفية.