رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعَظِّمُونَهَا وَيُقَلِّلُونَهَا خَوْفَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَيُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ الَّذِي سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِرَارًا، وَلَا يُصَرِّحُونَ بِالسَّمَاعِ، وَلَا يَقُولُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَتِلْكَ الْفَتْوَى الَّتِي يُفْتِي بِهَا أَحَدُهُمْ لَا تَخْرُجُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنْهُ، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَهَا مِنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَهْمًا خَفِيَ عَلَيْنَا، الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهَا مَلَؤُهُمْ، وَلَمْ يَنْقُلْ إلَيْنَا إلَّا قَوْلَ الْمُفْتِي بِهَا وَحْدَهُ، الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لِكَمَالِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ وَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ عَنَّا، أَوْ لِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ اقْتَرَنَتْ بِالْخِطَابِ، أَوْ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ فَهِمُوهَا عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مِنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُشَاهَدَةِ أَفْعَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهِ وَشُهُودِ تَنْزِيلِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ تَأْوِيلِهِ بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ فَهِمَ مَا لَا نَفْهَمُهُ نَحْنُ، وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ الْخَمْسَةِ تَكُونُ فَتْوَاهُ حُجَّةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَ مَا لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ، وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَا فَهِمَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالِ مِنْ خَمْسَةٍ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، هَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ، وَذَلِكَ يُفِيدُ ظَنًّا غَالِبًا قَوِيًّا عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِي قَوْلِهِ دُونَ مَا خَالَفَهُ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ إلَّا الظَّنَّ الْغَالِبَ، وَالْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيِّنٌ، وَيَكْفِي الْعَارِفُ هَذَا الْوَجْهَ.
فَصْلٌ:
[مِنْ وُجُوهِ فَضْلِ الصَّحَابَةِ] هَذَا فِيمَا انْفَرَدُوا بِهِ عَنَّا، أَمَّا الْمَدَارِكُ الَّتِي شَارَكْنَاهُمْ فِيهَا مِنْ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَالْأَقْيِسَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَ عِلْمًا، وَأَقَلَّ تَكَلُّفًا، وَأَقْرَبَ إلَى أَنْ يُوَفَّقُوا فِيهَا لِمَا لَمْ نُوَفَّقْ لَهُ نَحْنُ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ تَوَقُّدِ الْأَذْهَانِ، وَفَصَاحَةِ اللِّسَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ، وَسُهُولَةِ الْأَخْذِ، وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ وَسُرْعَتِهِ، وَقِلَّةِ الْمُعَارِضِ أَوْ عَدَمِهِ، وَحُسْنِ الْقَصْدِ، وَتَقْوَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَالْعَرَبِيَّةُ طَبِيعَتُهُمْ وَسَلِيقَتُهُمْ، وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ مَرْكُوزَةٌ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ، وَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى النَّظَرِ فِي الْإِسْنَادِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَلَا إلَى النَّظَرِ فِي قَوَاعِدِ الْأُصُولِ وَأَوْضَاعِ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ قَدْ غُنُوا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَيْسَ فِي حَقِّهِمْ إلَّا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَا، وَقَالَ رَسُولُهُ كَذَا، وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ كَذَا وَكَذَا، وَهُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَأَحْظَى الْأُمَّةِ بِهِمَا، فَقُوَاهُمْ مُتَوَفِّرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute