للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتَمَكَّنْ مِنْهُ وَخَافَ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى تَرْكِ الْإِفْتَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَوَابٌ؛ فَكَيْفَ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِ؟ وَلَا يَسَعُ الْحَاكِمَ وَالْمُفْتِيَ غَيْرُ هَذَا أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمَا عَنْ رَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، لَا عَنْ الْإِمَامِ الْمُعَيَّنِ وَمَا قَالَهُ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ وَيَوْمَ مَعَادِهِمْ عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فَيُقَالُ لَهُ فِي قَبْرِهِ: مَا كُنْتُ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: ٦٥] وَلَا يُسْأَلُ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ إمَامٍ وَلَا شَيْخٍ وَلَا مَتْبُوعٍ غَيْرِهِ، بَلْ يُسْأَلُ عَمَّنْ اتَّبَعَهُ وَائْتَمَّ بِهِ غَيْرُهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يُجِيبُ؟ وَلْيُعِدَّ لِلْجَوَابِ صَوَابًا.

وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: جَاءَنِي بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: أَسْتَشِيرُكَ فِي أَمْرٍ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَنْتَقِلَ عَنْ مَذْهَبِي، قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنِّي أَرَى الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ كَثِيرًا تُخَالِفُهُ، وَاسْتَشَرْتُ فِي هَذَا بَعْضَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ لِي: لَوْ رَجَعَتْ عَنْ مَذْهَبِكَ لَمْ يَرْتَفِعْ ذَلِكَ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ الْمَذَاهِبُ، وَرُجُوعُكَ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَأَشَارَ عَلَيَّ بَعْضُ مَشَايِخِ التَّصَوُّفِ بِالِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ وَسُؤَالِ الْهِدَايَةِ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَمَاذَا تُشِيرُ بِهِ أَنْتَ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: اجْعَلْ الْمَذْهَبَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ الْحَقُّ فِيهِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَاقْضِ بِهِ وَأَفْتِ بِهِ طَيِّبَ النَّفْسِ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ، وَقِسْمٌ مَرْجُوحٌ وَمُخَالِفُهُ مَعَهُ الدَّلِيلُ فَلَا تُفْتِ بِهِ وَلَا تَحْكُمْ بِهِ وَادْفَعْهُ عَنْكَ، وَقِسْمٌ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي الْأَدِلَّةُ فِيهَا مُتَجَاذِبَةٌ؛ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُفْتِيَ بِهِ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَدْفَعَهُ عَنْكَ، فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، أَوْ كَمَا قَالَ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - مِنْهُمْ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ -: مَنْ وَجَدَ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ فَإِنْ كَمُلَتْ آلَةُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مُطْلَقًا أَوْ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ آلَتُهُ وَوَجَدَ فِي قَلْبِهِ حَزَازَةً مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَ أَنْ بَحَثَ فَلَمْ يَجِدْ لِمُخَالَفَتِهِ عِنْدَهُ جَوَابًا شَافِيًا فَلْيَنْظُرْ: هَلْ عَمِلَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ أَمْ لَا؟ فَإِنْ وَجَدَهُ فَلَهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِهِ فِي الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَذْهَبِ إمَامِهِ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَتَوَى الْمُفْتِي بِغَيْرِ مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا تَرَجَّحَ فِي نَظَّرَهُ]

[إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُفْتِي مَذْهَبٌ غَيْرُ مَذْهَبِ إمَامِهِ، فَهَلْ يُفْتِي بِهِ؟] الْفَائِدَةُ الْخَمْسُونَ: (هَلْ لِلْمُفْتِي الْمُنْتَسِبِ إلَى مَذْهَبِ إمَامِ بِعَيْنِهِ أَنْ يُفْتِيَ بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ) ؟ فَإِنْ كَانَ سَالِكًا سَبِيلَ ذَلِكَ الْإِمَامِ فِي الِاجْتِهَادِ وَمُتَابَعَةِ الدَّلِيلِ أَيْنَ كَانَ - وَهَذَا هُوَ الْمُتَّبَعُ لِلْإِمَامِ حَقِيقَةً - فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا

<<  <  ج: ص:  >  >>