للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصَلِّ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي تَحْصِينِ الرَّجُلِ]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ الْحُرَّةَ الْقَبِيحَةَ الشَّوْهَاءَ تُحْصِنُ الرَّجُلَ، وَالْأَمَةَ الْبَارِعَةَ الْجَمَالِ لَا تُحْصِنُهُ " فَتَعْبِيرٌ سَيْءٌ عَنْ مَعْنًى صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ حِكْمَةَ الشَّارِعِ اقْتَضَتْ وُجُوبَ حَدِّ الزِّنَا عَلَى مَنْ كَمُلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ بِالْحَلَالِ، فَيَتَخَطَّاهُ إلَى الْحَرَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ كَمَالَ الْحَدِّ عَلَى مَنْ لَمْ يُحْصَنْ، وَاعْتَبَرَ لِلْإِحْصَانِ أَكْمَلَ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ الَّتِي يَرْغَبُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا، دُونَ الْأَمَةِ الَّتِي لَمْ يُبِحْ اللَّهُ نِكَاحَهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَالنِّعْمَةُ بِهَا لَيْسَتْ كَامِلَةً، وَدُونَ التَّسَرِّي الَّذِي هُوَ فِي الرُّتْبَةِ دُونَ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ الْأَمَةَ وَلَوْ كَانَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ لَا تَبْلُغُ رُتْبَةَ الزَّوْجَةِ، لَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَلَا عَادَةً، بَلْ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا رُتْبَةً، وَالْأَمَةُ لَا تُرَادُ لِمَا تُرَادُ لَهُ الزَّوْجَةُ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، وَلَا قَسْمَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ يَمِينِهِ، فَأَمَتُهُ تَجْرِي فِي الِابْتِذَالِ وَالِامْتِهَانِ وَالِاسْتِخْدَامِ مَجْرَى دَابَّتِهِ وَغُلَامِهِ، بِخِلَافِ الْحَرَائِرِ، وَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ أَنْ اعْتَبَرَتْ فِي كَمَالِ النِّعْمَةِ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَقَدَ عَلَى حُرَّةٍ وَدَخَلَ بِهَا؛ إذْ بِذَلِكَ يَقْضِي كَمَالَ وَطَرِهِ، وَيُعْطِي شَهْوَتَهُ حَقَّهَا، وَيَضَعُهَا مَوَاضِعَهَا، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَمُنْشَأُ الْحِكْمَةِ.

وَلَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُحْصَنِينَ، وَلَا يَضُرُّ تَخَلُّفُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ؛ إذْ شَأْنُ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ تُرَاعِيَ الْأُمُورَ الْعَامَّةَ الْمُنْضَبِطَةَ، وَلَا يَنْقُضُهَا تَخَلُّفُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْرَادِ الصُّوَرِ، كَمَا هَذَا شَأْنُ الْخَلْقِ؛ فَهُوَ مُوجِبُ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فِي قَضَائِهِ وَشَرْعِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ ذَكَرِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَدُونَ مَسِّ الْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، وَرُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ لِلسَّائِلِ: «هَلْ هُوَ إلَّا بَضْعَةٌ مِنْك» وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَمْ يَصِحَّ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ مُحْكَمٌ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَحَدِيثُ الْأَمْرِ دَالٌّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ.

وَسُؤَالُ السَّائِلِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ وَإِنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَنَحْنُ نُجِيبُهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، فَنَقُولُ: هَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَتَمَامِ مَحَاسِنِهَا، فَإِنَّ مَسَّ الذَّكَرِ بِالْوَطْءِ، وَهُوَ فِي مَظِنَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>