للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّجَاسَةَ، إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى تَارَةً يَكُونُ جَلِيًّا ظَاهِرًا، وَتَارَةً يَكُونُ خَفِيًّا غَامِضًا، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ.

وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بِأَنْ قَالَ: الْعَقْلُ إنَّمَا يَمْنَعُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ فِيمَا تَمَاثَلَا فِيهِ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ كَالسَّوَادَيْنِ وَالْبَيَاضَيْنِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ قَدْ اجْتَمَعَا فِي مُنَافَاةِ الْحُمْرَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا مِنْ الْأَلْوَانِ؛ فَإِنَّ الْقُعُودَ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ حَسَنًا إذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ قَبِيحًا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يُوفِي عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْقُعُودُ الْمَقْصُودُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مُتَيَقِّنًا، وَقَدْ يَكُونُ الْقُعُودُ فِي مَكَانَيْنِ مُجْتَمِعَيْنِ فِي الْحُسْنِ بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَفْعٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمِثْلَيْنِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ إنَّمَا وَجَبَ تَسَاوِي حُكْمُهُمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ سَاوَى الْآخَرَ فِيمَا لِأَجْلِهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ الْحُكْمُ إمَّا لِذَاتِهِ كَالسَّوَادَيْنِ أَوْ لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كَالْأَسْوَدَيْنِ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِعَيْنِهَا يَجْرِي الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا نَحْكُمُ لِلْفَرْعِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ إذَا شَارَكَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي الشَّيْئَيْنِ إذَا اشْتَرَكَا فِيمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِيهِمَا، فَقَدْ بَانَ بِذَلِكَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ بِأَنْ قَالَ: دَعْوَاكُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ الَّتِي اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهَا مُتَمَاثِلَةٌ فِي نَفْسِهَا دَعْوَى، وَالْأَمْثِلَةُ لَا تَشْهَدُ لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَّفِقَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ فِي امْتِنَاعِ أَدَائِهَا مِنْ الْحَائِضِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَالتَّمَاثُلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّاتِ.

وَأَيْضًا فَهَذَا يُوجِبُ مَنْعَ الْقِيَاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ جَائِزٌ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ.

[أجوبة مُفَصَّلَة عَمَّا ذَكَرَهُ نفاة الْقِيَاس]

فَهَذِهِ أَجْوِبَةُ النُّظَّارِ، وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ نُفْرِدُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا بِجَوَابٍ مُفَصَّلٍ، وَهُوَ الْمَسْلَكُ الثَّانِي الَّذِي وَعَدْنَا بِهِ. [جَوَابٌ مُفَصَّلٌ (١) لِمَاذَا وَجَبَ الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ؟]

أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: - وَهِيَ إيجَابُ الشَّارِع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغُسْلَ مِنْ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ - فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنَ الشَّرِيعَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ فَإِنَّ الْمَنِيَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>