بِنَفْسِهِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعٌ، فَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَصْلُ بِالْفَرْعِ؟ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إنَّمَا الْقِيَاسُ أَنْ تَقِيسَ عَلَى أَصْلٍ، فَأَمَّا أَنْ تَجِيءَ إلَى الْأَصْلِ فَتَهْدِمَهُ، ثُمَّ تَقِيسَ، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَقِيسُ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مُوَافَقَةِ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ لِلْقِيَاسِ، وَإِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْبَاطِلُ فَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لَهُ، وَيَا لِلَّهِ الْعَجَبُ، كَيْفَ وَافَقَ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ الْمُشْتَدِّ لِلْأُصُولِ حَتَّى قُبِلَ وَخَالَفَ خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ لِلْأُصُولِ حَتَّى رُدَّ،
[رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْعَرَايَا]
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْعَرَايَا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَإِنَّ هَذَا لَا يَتَنَاوَلُ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ رَدَدْتُمْ خَبَرَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مَعَ أَنَّهُ مُحْكَمٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ بِحَدِيثِ الْعَرَايَا وَهُوَ مُتَشَابِهٌ.
قِيلَ: فَإِذَا كَانَ عِنْدَكُمْ مُحْكَمًا صَحِيحًا فَكَيْفَ رَدَدْتُمُوهُ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالتَّمْرِ؟ فَلَا بِحَدِيثِ النَّهْيِ أَخَذْتُمْ، وَلَا بِحَدِيثِ الْعَرَايَا، بَلْ خَالَفْتُمْ الْحَدِيثَيْنِ مَعًا، وَأَمَّا نَحْنُ فَأَخَذْنَا بِالسُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَتَرَكْنَا كُلَّ سُنَّةٍ عَلَى وَجْهِهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَلَمْ نَضْرِبْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَلَمْ نُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا؛ فَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ مُتَفَاضِلًا، وَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مُطْلَقًا، وَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ الْعَرَايَا وَخَصَصْنَا بِهِ عُمُومَ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ؛ اتِّبَاعًا لِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلِّهَا، وَإِعْمَالًا لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ جَمِيعِهَا، فَإِنَّهَا كُلَّهَا حَقٌّ، وَلَا يَجُوزُ ضَرْبُ الْحَقِّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَإِبْطَالُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[رَدُّ حَدِيثِ الْقَسَامَةِ]
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: رَدُّ حَدِيثِ الْقَسَامَةِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الْمُحْكَمِ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَاَلَّذِي شَرَعَ الْحُكْمَ بِالْقَسَامَةِ هُوَ الَّذِي شَرَعَ أَنْ لَا يُعْطَى أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ الْمُجَرَّدَةِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَلَمْ يُعْطَ فِي الْقَسَامَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ بَهَرَتْ حِكْمَةُ شَرْعِهِ الْعُقُولَ أَنْ لَا يُعْطِيَ الْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ عُودًا مِنْ أَرَاكٍ ثُمَّ يُعْطِيه بِدَعْوَى مُجَرَّدَةٍ دَمَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ فَوْقَ تَغْلِيبِ الشَّاهِدَيْنِ، وَهُوَ اللَّوَثُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْقَرِينَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ وُجُودِ الْعَدُوِّ مَقْتُولًا فِي بَيْتِ عَدُوِّهِ، فَقَوَّى الشَّارِعُ الْحَكِيمُ هَذَا السَّبَبَ بِاسْتِحْلَافِ خَمْسِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ الَّذِينَ يَبْعُدُ أَوْ يَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُهُمْ كُلُّهُمْ عَلَى رَمْيِ الْبَرِيءِ بِذَمٍّ لَيْسَ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute