فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْجَمِيعُ حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ، فَاَلَّذِي وَقَّتَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ هُوَ الَّذِي شَرَعَ الْجَمْعَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ؛ فَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِ السُّنَّةِ وَيُتْرَكُ بَعْضُهَا.
وَالْأَوْقَاتُ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ نَوْعَانِ بِحَسَبِ حَالِ أَرْبَابِهَا: أَوْقَاتُ السَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَأَوْقَاتُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ. وَلِكُلٍّ مِنْهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا، وَكَمَا أَنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطَهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ فَهَكَذَا أَوْقَاتُهَا، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ النَّائِمِ وَالذَّاكِرِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ أَوْقَاتَ الْمَعْذُورِينَ ثَلَاثَةً: وَقْتَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ، وَوَقْتًا مُخْتَصًّا؛ فَالْوَقْتَانِ الْمُشْتَرَكَانِ لِأَرْبَابِ الْأَعْذَارِ هُمَا أَرْبَعَةٌ لِأَرْبَابِ الرَّفَاهِيَةِ، وَلِهَذَا جَاءَتْ الْأَوْقَاتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَوْعَيْنِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثَةٍ فِي نَحْوِ عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ، فَالْخَمْسَةُ لِأَهْلِ الرَّفَاهِيَةِ وَالسَّعَةِ، وَالثَّلَاثَةُ لِأَرْبَابِ الْأَعْذَارِ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبَيَانِهِ وَبَيَانِ أَسْبَابِهِ، فَتَوَافَقَتْ دَلَالَةُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالِاعْتِبَارُ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَصَالِحِ.
فَأَحَادِيثُ الْجَمْعِ مَعَ أَحَادِيثِ الْإِفْرَادِ بِمَنْزِلَةِ أَحَادِيثِ الْأَعْذَارِ وَالضَّرُورَاتِ مَعَ أَحَادِيثِ الشُّرُوطِ وَالْوَاجِبَاتِ؛ فَالسُّنَّةُ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لَا يُرَدُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثَ الْجَمْعِ وَجَدَهَا كُلَّهَا صَرِيحَةً فِي جَمْعِ الْوَقْتِ لَا فِي جَمْعِ الْفِعْلِ، وَعَلِمَ أَنَّ جَمْعَ الْفِعْلِ أَشَقُّ وَأَصْعَبُ مِنْ الْإِفْرَادِ بِكَثِيرٍ؛ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ بِالرُّخْصَةِ أَنْ يَبْقَى مِنْ وَقْتِ الْأُولَى قَدْرَ فِعْلِهَا فَقَطْ، بِحَيْثُ إذَا سَلَّمَ مِنْهَا دَخَلَ وَقْتُ الثَّانِيَةِ فَأَوْقَعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَقْصُودِ الْجَمْعِ، وَأَلْفَاظُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ تَرُدُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْوِتْرِ بِخَمْسٍ مُتَّصِلَةٍ وَسَبْعٍ مُتَّصِلَةٍ]
[الْوِتْرُ مَعَ الِاتِّصَالِ]
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي الْوِتْرِ بِخَمْسٍ مُتَّصِلَةٍ وَسَبْعٍ مُتَّصِلَةٍ كَحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ وَلَا كَلَامٍ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَكَقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَكَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ، وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعنَاهُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صُنْعِهِ فِي الْأُولَى» وَفِي لَفْظٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute