للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَانَ شَدِيدَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَنْعِ لِلْإِفْتَاءِ بِمَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا أَثَرٌ عَنْ السَّلَفِ، كَمَا قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ.

وَكَانَ يُسَوِّغُ اسْتِفْتَاءَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِمْ، وَيَمْنَعُ مِنْ اسْتِفْتَاءِ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ الْحَدِيثِ، وَلَا يَبْنِي مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُسَوِّغُ الْعَمَلَ بِفَتْوَاهُ.

قَالَ ابْنُ هَانِئٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُفْتِي بِمَا لَمْ يَسْمَعْ، قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَمَّنْ أَفْتَى بِفُتْيَا يَعِي فِيهَا قَالَ: فَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهَا، قُلْت: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُفْتِي حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؟ قَالَ: يُفْتِي بِالْبَحْثِ، لَا يَدْرِي أَيْشٍ أَصْلُهَا.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي مَسَائِلِهِ: مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا رَأَيْت مِثْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الْفَتْوَى أَحْسَنَ فُتْيَا مِنْهُ، كَانَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْغَرْبِ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ لَا أَدْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَاءَك أَنِّي لَا أَدْرِي.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنْت أَسْمَعُ أَبِي كَثِيرًا يُسْأَلُ عَنْ الْمَسَائِلِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي وَيَقِفُ إذَا كَانَتْ مَسْأَلَةٌ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ: سَلْ غَيْرِي، فَإِنْ قِيلَ لَهُ: مَنْ نَسْأَلُ؟ قَالَ: سَلُوا الْعُلَمَاءَ، وَلَا يَكَادُ يُسَمِّي رَجُلًا بِعَيْنِهِ قَالَ: وَسَمِعْت أَبِي يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَا يُفْتِي فِي الطَّلَاقِ، وَيَقُولُ: مَنْ يُحْسِنُ هَذَا؟ ،

[فَصْلٌ كَرَاهَةُ الْعُلَمَاءِ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى]

] وَكَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى، وَيَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ: فَإِذَا رَأَى بِهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بَذَلَ

اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثُمَّ أَفْتَى. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَرَاهُ قَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا

<<  <  ج: ص:  >  >>