للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَمَا جَرَى لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ فِيهَا، وَلَمْ يَعْرِفْ الَّذِي أَفْتَاهُ بِهِ، فَاسْتَأْجَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ اُسْتُفْتِيَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَسْأَلَةٍ فَأَخْطَأَ فَمَنْ كَانَ أَفْتَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ بِشَيْءٍ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِ، ثُمَّ لَبِثَ أَيَّامًا لَا يُفْتِي حَتَّى جَاءَ صَاحِبُ الْفَتْوَى فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ، وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُ مَا أَفْتَاهُ بِهِ.

قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِفَايَتِهِ: مَنْ أَفْتَى بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي بِذَلِكَ إنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ بِهِ، وَإِلَّا أَعْلَمَهُ.

وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ قَطْعًا لِكَوْنِهِ خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا أَوْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْأُمَّةِ فَعَلَيْهِ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ خَالَفَ مُجَرَّدَ مَذْهَبِهِ أَوْ نَصَّ إمَامِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي.

وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ قِصَّةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا نَاظَرَ الصَّحَابَةَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، بَيَّنُوا لَهُ أَنَّ صَرِيحَ الْكِتَابِ يُحَرِّمُهَا لِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى أَبْهَمَهَا فَقَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: ٢٣] وَظَنَّ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ قَوْلَهُ: {اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: ٢٣] رَاجِعٌ إلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَبَيَّنُوا لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى أُمَّهَاتِ الرَّبَائِبِ خَاصَّةً، فَعَرَفَ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِحِلِّهَا خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى، فَفَرَّقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بِكَوْنِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ قَوْلِ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[هَلْ يَضْمَنُ الْمُفْتِي الْمَالَ أَوْ النَّفْسَ فِيمَا بَانَ خَطَؤُهُ]

[هَلْ يَضْمَنُ الْمُفْتِي الْمَالَ أَوْ النَّفْسَ؟] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: (إذَا عَمِلَ الْمُسْتَفْتِي بِفُتْيَا مُفْتٍ فِي إتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ثُمَّ بَانَ خَطَؤُهُ) .

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: يَضْمَنُ الْمُفْتِي إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى وَخَالَفَ الْقَاطِعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ قَصَّرَ فِي اسْتِفْتَائِهِ وَتَقْلِيدِهِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ فِي كِتَابِ: آدَابِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي " لَهُ، وَلَمْ أَعْرِفْ هَذَا لِأَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ الْأَصْحَابِ ثُمَّ حَكَى وَجْهًا آخَرَ فِي تَضْمِينِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ قَالَ: لِأَنَّهُ تَصَدَّى لِمَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ وَغَرَّ مَنْ اسْتَفْتَاهُ بِتَصَدِّيهِ لِذَلِكَ.

قُلْتُ: خَطَأُ الْمُفْتِي كَخَطَأِ الْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي خَطَأِ الْحَاكِمِ فِي النَّفْسِ أَوْ الطَّرَفِ، فَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ مِنْهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ، فَلَوْ حَمَلَتْهُ الْعَاقِلَةُ لَكَانَ ذَلِكَ إضْرَارًا عَظِيمًا بِهِمْ، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْخَطَأُ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا خَطَؤُهُ فِي الْمَالِ فَإِذَا حَكَمَ بِحَقٍّ ثُمَّ بَانَ كُفْرُ الشُّهُودِ أَوْ فِسْقُهُمْ نَقَضَ حُكْمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِبَدَلِ الْمَالِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْحُكْمُ بِقَوَدٍ رَجَعَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِبَدَلِهِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ.

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>