للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالرُّؤَسَاءِ مَنْ عَصَاهُمْ مِنْ خَوَاصِّهِمْ وَحَشَمِهِمْ وَمَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَمَنْ عَصَاهُمْ مِنْ الْأَطْرَافِ وَالْبُعَدَاءِ؛ فَجَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ أَخَفَّ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ، جَمْعًا بَيْنَ حِكْمَةِ الزَّجْرِ وَحِكْمَةِ نَقْصِهِ، وَلِهَذَا كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، إظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ وَخَطَرِهَا، وَإِعْطَاءً لِكُلِّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا مِنْ الْأَمْرِ كَمَا أَعْطَاهَا حَقَّهَا مِنْ الْقَدْرِ، وَلَا تَنْتَقِضُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ بِإِعْطَاءِ الْعَبْدِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرَيْنِ، بَلْ هَذَا مَحْضُ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَقَّانِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِسَيِّدِهِ فَأُعْطِيَ بِإِزَاءِ قِيَامِهِ بِكُلِّ حَقٍّ أَجْرًا، فَاتَّفَقَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْجَزَاءِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

[فَصَلِّ حِكْمَةُ شَرْعِ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ دُونَ غَيْرِهَا]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ لِلْقَاذِفِ إسْقَاطَ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ فِي الزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ أَلْحَقَ بِهِمَا الْعَارَ " فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ قَاذِفَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُسْتَغْنٍ عَنْ قَذْفِهَا، لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ زِنَاهَا لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ فِرَاشَهُ، وَلَا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَذْفُهَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَأَذًى لِمُحْصَنَةٍ غَافِلَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً، وَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ بِزِنَاهَا مِنْ الْعَارِ وَالْمَسَبَّةِ وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ وَإِلْحَاقِ وَلَدِ غَيْرِهِ بِهِ، وَانْصِرَافِ قَلْبِهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ؛ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى قَذْفِهَا، وَنَفْيِ النَّسَبِ الْفَاسِدِ عَنْهُ، وَتَخَلُّصِهِ مِنْ الْمِسَبَّةِ وَالْعَارِ؛ لِكَوْنِهِ زَوْجَ بَغْيٍ فَاجِرَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا فِي الْغَالِبِ، وَهِيَ لَا تُقِرُّ بِهِ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى تَحَالُفِهَا بِأَغْلَظِ الْإِيمَانِ، وَتَأْكِيدِهَا بِدُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّعْنَةِ وَدُعَائِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالْغَضَبِ إنْ كَانَا كَاذِبَيْنِ.

ثُمَّ يَفْسَخُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَصْفُوَ لِلْآخَرِ أَبَدًا؛ فَهَذَا أَحْسَنُ حُكْمٍ يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ بَعْدَهُ أَعْدَلُ مِنْهُ، وَلَا أَحْكَمُ، وَلَا أَصْلَحُ، وَلَوْ جُمِعَتْ عُقُولُ الْعَالَمِينَ لَمْ يَهْتَدُوا إلَيْهِ، فَتَبَارَكَ مَنْ أَبَانَ رُبُوبِيَّتَهُ وَوَحْدَانِيَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَعِلْمَهُ فِي شَرْعِهِ وَخَلْقِهِ.

[فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْمُسَافِرِ بِالرُّخَصِ]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَوَّزَ لِلْمُسَافِرِ الْمُتَرَفِّهِ فِي سَفَرِهِ رُخْصَةَ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ، دُونَ الْمُقِيمِ الْمَجْهُودَ الَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الْمَشَقَّةِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ يَخْتَصُّ بِالْمُسَافِرِ، وَلَا يُفْطِرُ الْمُقِيمُ إلَّا لِمَرَضٍ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ؛ فَإِنَّ السَّفَرَ فِي نَفْسِهِ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>