لِأَنَّ النَّفِيرَ إنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِذَا اسْتَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا» وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي الْمُقِيمِينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْغَائِبِينَ عَنْهُ، وَالْمُقِيمُونَ مُرَادُونَ وَلَا بُدَّ فَإِنَّهُمْ سَادَاتُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ اللَّفْظُ؟ وَعَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصًّا بِالْغَائِبِينَ عَنْهُ فَقَطْ، وَالْمَعْنَى " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا إلَيْهِ كُلُّهُمْ، فَلَوْلَا نَفَرَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ " وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِخْرَاجٌ لِلَفْظِ النَّفِيرِ عَنْ مَفْهُومِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْقَوْلِ بِالتَّقْلِيدِ الْمَذْمُومِ، بَلْ هِيَ حُجَّةٌ عَلَى فَسَادِهِ وَبُطْلَانِهِ؛ فَإِنَّ الْإِنْذَارَ إنَّمَا يَقُومُ بِالْحُجَّةِ، فَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُنْذِرَ، كَمَا أَنَّ النَّذِيرَ مَنْ أَقَامَ الْحُجَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ فَلَيْسَ بِنَذِيرٍ، فَإِنْ سَمَّيْتُمْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ التَّقْلِيدَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَسَمُّوهُ مَا شِئْتُمْ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ نَصْبَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ يُجْعَلُ قَوْلُهُ عِيَارًا عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ؛ فَمَا وَافَقَ قَوْلَهُ مِنْهَا قُبِلَ وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يُقْبَلْ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَيُرَدُّ قَوْلُ نَظِيرِهِ أَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ وَالْحُجَّةُ مَعَهُ، فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرْنَاهُ، وَكُلُّ عَالِمٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُعْلِنُ إنْكَارَهُ وَذَمَّهُ وَذَمَّ أَهْلِهِ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ سُئِلَ عَنْ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا - يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا " فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّقْلِيدِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّافِيَةِ الَّتِي لَا مَطْمَعَ فِي دَفْعِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَدِّ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ تَقْلِيدًا، بَلْ أَضَافَ الْمَذْهَبَ إلَى الصِّدِّيقِ لِيُنَبِّهَ عَلَى جَلَالَةِ قَائِلِهِ، وَأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُقَاسَ غَيْرُهُ بِهِ، لَا لِيُقْبَلَ قَوْلَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَتَتْرُكُ الْحُجَّةُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ؛ فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا أَتْقَى لِلَّهِ، وَحُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوهَا لِآرَاءِ الرِّجَالِ وَلِقَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَقَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ: " إنَّ الصِّدِّيقَ أَنْزَلَهُ أَبًا " مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ مَعًا.
[لَيْسَ قَبُولُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا]
[لَيْسَ قَبُولُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا لَهُ]
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ: قَوْلُكُمْ: " وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي آفَاتِ التَّقْلِيدِ غَيْرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ لَكَفَى بِهِ بُطْلَانًا، وَهَلْ قَبِلْنَا قَوْلَ الشَّاهِدِ إلَّا بِنَصِّ كِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى قَبُولِ قَوْلِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَبَهُ حُجَّةً يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهَا كَمَا يَحْكُمُ بِالْإِقْرَارِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمُقِرِّ أَيْضًا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَقَبُولُهُ تَقْلِيدٌ لَهُ، كَمَا سَمَّيْتُمْ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ تَقْلِيدًا، فَسَمَّوْهُ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِالْحُكْمِ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الْأَحْكَامِ؛ فَالْحَاكِمُ بِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute