[فَصَلِّ الْحُكْمُ فِي بَصِيرٍ يَقُودُ أَعْمَى فَيَخُرَّانِ مَعًا وَفْقَ الْقِيَاسِ]
وَمِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُودُ أَعْمَى، فَوَقَعَا فِي بِئْرٍ، فَخَرَّ الْبَصِيرُ، وَوَقَعَ الْأَعْمَى فَوْقَهُ فَقَتَلَهُ، فَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى، فَكَانَ الْأَعْمَى يَدُورُ فِي الْمَوْسِمِ وَيُنْشِدُ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرًا ... هَلْ يَعْقِلُ الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا
خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَذَهَبَ إلَى قَضَاءِ عُمَرَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى ضَمَانُ الْبَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي قَادَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَا فِيهِ وَكَانَ سَبَبُ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ قَصْدًا مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْأَعْمَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ بِقَصْدِهِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُغْنِي: لَوْ قِيلَ هَذَا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ.
وَالْقِيَاسُ حُكْمُ عُمَرَ؛ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْدَهُ لَهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْأَعْمَى، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْذُونٍ فِيهِ لَمْ يُضْمَنْ كَنَظَائِرِهِ.
الثَّانِي: قَدْ يَكُونُ قَوْدُهُ لَهُ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا، وَمَنْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْإِذْنَانِ إذْنُ الشَّارِعِ وَإِذْنُ الْأَعْمَى، فَهُوَ مُحْسِنٌ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ مُحْسِنٌ إلَى الْأَعْمَى بِقَوْدِهِ لَهُ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّهُ سَقَطَ عَلَى الْبَصِيرِ فَقَتَلَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ إنْسَانٌ مِنْ سَطْحٍ عَلَى آخَرَ فَقَتَلَهُ، فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ.
وَقَوْلُهُمْ: " هُوَ الَّذِي قَادَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَا فِيهِ " فَهَذَا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ قَوْدَهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِ وَمِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، وَقَوْلُهُمْ: " وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ قَصْدًا لَمْ يَضْمَنْهُ " فَصَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُسِيءٌ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، لَا مِنْ جِهَةِ الْأَعْمَى وَلَا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، فَالْقِيَاسُ الْمَحْضُ قَوْلُ عُمَرَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute