للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَسْعَدُ الْخَلْقِ أَهْلُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْهِدَايَةِ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ عُدِمَ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] وَنَصِيبُهُ مِنْ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] مَعْدُومٌ أَوْ ضَعِيفٌ؛ فَهَذَا مَخْذُولٌ مُهِينٌ مَحْزُونٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نَصِيبُهُ مِنْ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] قَوِيًّا وَنَصِيبُهُ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: ٥] ضَعِيفًا أَوْ مَفْقُودًا؛ فَهَذَا لَهُ نُفُوذٌ وَتَسَلُّطٌ وَقُوَّةٌ، وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ، بَلْ عَاقِبَتُهُ أَسْوَأُ عَاقِبَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] وَلَكِنْ نَصِيبُهُ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى الْمَقْصُودِ ضَعِيفٌ جِدًّا، كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْعِبَادِ وَالزُّهَّادِ الَّذِينَ قَلَّ عِلْمُهُمْ بِحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.

وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ " إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي قِيَامُهُ فِي الْحَقِّ لِلَّهِ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ أَوَّلَ قَائِمٍ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ قِيَامُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُقْبَلُ الْحَقُّ مِمَّنْ أَهْمَلَ الْقِيَامَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ؟ وَخَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا تَسْمَعُونَ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: لَا نَسْمَعُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: إنَّك قَسَّمْت عَلَيْنَا ثَوْبًا ثَوْبًا وَعَلَيْك ثَوْبَانِ، فَقَالَ: لَا تَعْجَلْ. يَا عَبْدَ اللَّهِ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: نَشَدْتُك اللَّهَ الثَّوْبُ الَّذِي ائْتَزَرْتُ بِهِ أَهْوَ ثَوْبُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ سَلْمَانُ: أَمَّا الْآنَ فَقُلْ نَسْمَعْ.

[فَصَلِّ الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَعُقُوبَتُهُ]

فَصْلٌ

[الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ وَعُقُوبَتُهُ]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ شَانَهُ اللَّهُ " لِمَا كَانَ الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ ضِدَّ الْمُخْلِصِ - فَإِنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَمْرًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِهِ - عَامَلَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ؛ فَإِنَّ الْمُعَاقَبَةَ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخْلِصُ يُعَجَّلُ لَهُ مِنْ ثَوَابِ إخْلَاصِهِ الْحَلَاوَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْمَهَابَةُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ عُجِّلَ لِلْمُتَزَيِّنِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ شَانَهُ اللَّهُ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ شَانَ بَاطِنَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا مُوجِبٌ أَسْمَاءَ الرَّبِّ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَحِكْمَتِهِ فِي قَضَائِهِ وَشَرْعِهِ.

هَذَا، وَلَمَّا كَانَ مَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالدِّينِ وَالنُّسُكِ وَالْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلَوَازِمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ تُطْلَبَ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ افْتَضَحَ، فَيَشِينُهُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ يَزِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَخْفَى عَنْ النَّاسِ مَا أَظْهَرَ لِلَّهِ خِلَافَهُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ عُيُوبِهِ لِلنَّاسِ مَا أَخْفَاهُ عَنْهُمْ، جَزَاءً لَهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، وَكَانَ بَعْضُ

<<  <  ج: ص:  >  >>