للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصَلِّ سِرُّ التَّفْرِقَةِ فِي الْوَصْفِ بَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ النَّهَارِ]

وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَصَلَاةِ النَّهَارِ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ فَفِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ هُدُوءِ الْأَصْوَاتِ وَسُكُونِ الْحَرَكَاتِ وَفَرَاغِ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعِ الْهِمَمِ الْمُشَتَّتَةِ بِالنَّهَارِ، فَالنَّهَارُ مَحِلُّ السَّبْحِ الطَّوِيلِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ، وَاللَّيْلُ مَحِلُّ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ لِلِّسَانِ وَمُوَاطَأَةِ اللِّسَانِ لِلْأُذُنِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّةُ تَطْوِيلُ قِرَاءَةِ الْفَجْرِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ يَقْرَأُ فِيهَا بِالْبَقَرَةِ، وَعُمَرُ بِالنَّحْلِ وَهُودٍ وَبَنِي إسْرَائِيلَ وَيُونُسَ وَنَحْوِهَا مِنْ السُّوَرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ أَفْرَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّوَاغِلِ حِينَ انْتِبَاهِهِ مِنْ النَّوْمِ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي فِيهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِحَذَافِيرِهِ صَادَفَهُ خَالِيًا مِنْ الشَّوَاغِلِ فَتَمَكَّنَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ؛ وَأَمَّا النَّهَارُ فَلَمَّا كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَةُ صَلَاتِهِ سِرِّيَّةً إلَّا إذَا عَارَضَ فِي ذَلِكَ مُعَارِضٌ أَرْجَحُ مِنْهُ، كَالْمَجَامِعِ الْعِظَامِ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ؛ فَإِنَّ الْجَهْرَ حِينَئِذٍ أَحْسَنُ وَأَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، وَأَنْفَعُ لِلْجَمْعِ، وَفِيهِ مِنْ قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَتَبْلِيغِهِ فِي الْمَجَامِعِ الْعِظَامِ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الرِّسَالَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصَلِّ سِرّ تَقْدِيمِ الْعَصَبَةِ الْبُعَدَاءِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاث]

فَصْلٌ [سِرٌّ فِي تَقْدِيمِ الْعَصَبَةِ الْبُعَدَاءِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَإِنْ قَرُبُوا]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَوِرْثُ ابْنُ ابْنِ الْعَمِّ وَإِنْ بَعُدَتْ دَرَجَتُهُ دُونَ الْخَالَةِ الَّتِي هِيَ شَقِيقَةٌ لِلْأُمِّ " فَنَعَمْ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَجَلَالَتِهَا؛ فَإِنَّ ابْنَ الْعَمِّ مِنْ عَصَبَتِهِ الْقَائِمِينَ بِنُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ وَحَمْلِ الْعَقْلِ عَنْهُ، فَبَنُو أَبِيهِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَصَبَتُهُ وَالْمُحَامُونَ دُونَهُ، وَأَمَّا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ، وَإِنَّمَا يَنْتَسِبُونَ إلَى آبَائِهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَقَارِبِ الْبَنَاتِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ

فَمِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ جَعَلَ الْمِيرَاثَ لِأَقَارِبِ الْأَبِ، وَقَدَّمَهُمْ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ، وَإِنَّمَا وَرِثَ مَعَهُمْ مِنْ أَقَارِبِ الْأُمِّ مَنْ رَكَضَ الْمَيِّتُ مَعَهُمْ فِي بَطْنِ الْأُمِّ، وَهُمْ إخْوَانُهُ أَوْ مَنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ جِدًّا وَهُنَّ جَدَّاتُهُ لِقُوَّةِ إيلَادِهِنَّ وَقُرْبِ أَوْلَادِهِنَّ مِنْهُ؛ فَإِذَا عَدِمَتْ قَرَابَةُ الْأَبِ انْتَقَلَ الْمِيرَاثُ إلَى قَرَابَةِ الْأُمِّ، وَكَانُوا أَوْلَى مِنْ الْأَجَانِبِ؛ فَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَكْمَلُ شَيْءٍ وَأَعْدَلُهُ وَأَحْسَنُهُ. .

<<  <  ج: ص:  >  >>