وَبِحَمْدِ اللَّهِ إلَى سَاعَتِي هَذِهِ مَا رَأَيْت فِي الشَّرِيعَةِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ، أَعْنِي شَرِيعَةَ التَّنْزِيلِ لَا شَرِيعَةَ التَّأْوِيلِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَلْفَاظَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَرِيمَةَ تَبَيَّنَ لَهُ انْدِفَاعُ هَذَا السُّؤَالِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الْوَصْفَيْنِ: أَنْ يَكُونَ لَهُ نَابٌ، وَأَنْ يَكُون مِنْ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ بِطَبْعِهَا كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ.
وَأَمَّا الضَّبُعُ فَإِنَّمَا فِيهَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ، وَهُوَ كَوْنُهَا ذَاتَ نَابٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ السِّبَاعَ أَخَصُّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ، وَالسَّبُعُ إنَّمَا حَرَّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُوَّةِ السَّبُعِيَّةِ الَّتِي تُوَرِّثُ الْمُغْتَذَى بِهَا شِبْهُهَا؛ فَإِنَّ الْغَاذِيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُوَّةَ السَّبُعِيَّةَ الَّتِي فِي الذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ لَيْسَتْ فِي الضَّبُعِ حَتَّى تَجِبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّحْرِيمِ، وَلَا تُعَدُّ الضَّبُعُ مِنْ السِّبَاعِ لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصَلِّ سِرُّ تَخْصِيصِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ]
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِشَهَادَتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ " فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ، وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ إنَّمَا كَانَ لِمُخَصِّصٍ اقْتَضَاهُ، وَهُوَ مُبَادَرَتُهُ دُونَ مَنْ حَضَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَى الشَّهَادَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ الْأَعْرَابِيَّ، وَكَانَ فَرَضَ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ بَايَعَ الْأَعْرَابِيَّ، وَذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَالشَّهَادَةِ بِتَصْدِيقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَكِنَّ خُزَيْمَةَ تَفَطَّنَ لِدُخُولِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ تَحْتَ عُمُومِ الشَّهَادَةِ لِصِدْقِهِ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فِي صِدْقِهِ فِي هَذَا وَهَذَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ فِي هَذَا وَهَذَا؛ فَلَمَّا تَفَطَّنَ خُزَيْمَةُ دُونَ مَنْ حَضَرَ لِذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَنْ تُجْعَلَ شَهَادَتُهُ بِشَهَادَتَيْنِ.
[فَصَلِّ سِرُّ تَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَاءِ تَضْحِيَتِهِ بِعِنَاقٍ]
فَصْلٌ [سِرُّ تَخْصِيصِ أَبُو بُرْدَةَ بِإِجْزَاءِ تَضْحِيَتِهِ بِعِنَاقٍ]
وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ بِإِجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ بِالْعِنَاقِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُ فَلِمُوجِبٍ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ مُتَأَوِّلًا غَيْرَ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْإِجْزَاءِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ بِأُضْحِيَّةٍ وَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ أَرَادَ إعَادَةَ الْأُضْحِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا عِنَاقٌ هِيَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ؛ فَرَخَّصَ لَهُ فِي التَّضْحِيَةِ بِهَا؛ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ ذَبْحٌ تَأَوَّلَ فِيهِ، وَكَانَ مَعْذُورًا بِتَأْوِيلِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ يُجْزِئُ إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ الْمُسْتَقِرَّ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute