للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشَّارِعُ بِهَا عِدَّةَ أَحْكَامٍ، وَرَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا، وَأَبَاحَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثَلَاثًا، وَجَعَلَ حَدَّ الضِّيَافَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَوْ الْمُوجِبَةِ ثَلَاثًا، وَأَبَاحَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا ثَلَاثًا، فَرَحِمَ الضَّرَّةَ بِأَنْ جَعَلَ غَايَةَ انْقِطَاعِ زَوْجِهَا عَنْهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يَعُودُ؛ فَهَذَا مَحْضُ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ.

وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَمَّا كُنَّ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ الْخَيْلِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ لِقَصْرِ الْمَالِكِ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْهُنَّ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْعَدَدِ مَعْنًى؛ فَكَمَا لَيْسَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يُقْصِرَ السَّيِّدُ عَلَى أَرْبَعَةِ عَبِيدٍ أَوْ أَرْبَعِ دَوَابَّ وَثِيَابٍ وَنَحْوِهَا، فَلَيْسَ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُقْصِرَهُ عَلَى أَرْبَعِ إمَاءٍ، وَأَيْضًا فَلِلزَّوْجَةِ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ اقْتَضَاهُ عَقْدُ النِّكَاحِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْقِيَامُ بِهِ، فَإِنْ شَارَكَهَا غَيْرَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ بَيْنَهُمَا؛ فَقَصْرُ الْأَزْوَاجِ عَلَى عَدَدٍ يَكُونُ الْعَدْلُ فِيهِ أَقْرَبَ مِمَّا زَادَ عَلَيْهِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ الْعَدْلَ وَلَوْ حَرَصُوا عَلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لِإِمَائِهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ لَهُنَّ قَسْمٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٣] وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي إبَاحَةِ التَّعَدُّدِ لِلرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَإِنَّهُ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ زَوْجٍ وَاحِدٍ " فَذَلِكَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لَهُمْ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ وَرِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ، وَيَتَعَالَى سُبْحَانَهُ عَنْ خِلَافِ ذَلِكَ، وَيُنَزَّهُ شَرْعُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِغَيْرِ هَذَا، وَلَوْ أُبِيحَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ زَوْجَيْنِ فَأَكْثَرَ لَفَسَدَ الْعَالَمُ، وَضَاعَتْ الْأَنْسَابُ، وَقَتَلَ الْأَزْوَاجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَعَظُمَتْ الْبَلِيَّةُ، وَاشْتَدَّتْ الْفِتْنَةُ، وَقَامَتْ سُوقُ الْحَرْبِ عَلَى سَاقٍ، وَكَيْف يَسْتَقِيمُ حَالُ امْرَأَةٍ فِيهَا شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ؟ وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ حَالُ الشُّرَكَاءِ فِيهَا؟ فَمَجِيءُ الشَّرِيعَةِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ خِلَافِ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ وَرَحْمَتِهِ وَعِنَايَتِهِ بِخَلْقِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْف رُوعِيَ جَانِبُ الرَّجُلِ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَنْ يُسِيمَ طَرْفَهُ وَيَقْضِيَ وَطَرَهُ، وَيَنْتَقِلَ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى وَاحِدَةٍ بِحَسَبِ شَهْوَتِهِ وَحَاجَتِهِ، وَدَاعِي الْمَرْأَةِ دَاعِيهِ، وَشَهْوَتُهَا شَهْوَتُهُ؟ قِيلَ: لَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ عَادَتِهَا أَنْ تَكُونَ مُخَبَّأَةً مِنْ وَرَاءِ الْخُدُورِ، وَمَحْجُوبَةً فِي كُنِّ بَيْتِهَا، وَكَانَ مِزَاجُهَا أَبْرَدَ مِنْ مِزَاجِ الرَّجُلِ، وَحَرَكَتُهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ أَقَلَّ مِنْ حَرَكَتِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْحَرَارَةِ الَّتِي هِيَ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَتْهُ الْمَرْأَةُ، وَبُلِيَ بِمَا لَمْ تُبْلَ بِهِ؛ أَطْلَقَ لَهُ مِنْ عَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ مَا لَمْ يُطْلِقْ لِلْمَرْأَةِ؛ وَهَذَا مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>