مُضِرٌّ، وَانْقِطَاعُهُ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَدَمُ الْحَيْضِ عَكْسُ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَوِي الدَّمَانِ حَقِيقَةً وَلَا عُرْفًا وَلَا حُكْمًا وَلَا سَبَبًا؛ فَمِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ تَفْرِيقَهَا بَيْنَ الدَّمَيْنِ فِي الْحُكْمِ كَمَا افْتَرَقَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا]
فَصْلٌ:
[الْحِكْمَةُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا]
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَرَّمَ بَيْعَ مُدَّ حِنْطَةٍ بِمُدٍّ وَحَفْنَةٍ، وَجَوَّزَ بَيْعَهُ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ " فَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إلَيْهَا إلَّا أُولُو الْعُقُولِ الْوَافِرَةِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى حِكْمَةِ ذَلِكَ إشَارَةً بِحَسَبِ عُقُولِنَا الضَّعِيفَةِ وَعِبَارَاتِنَا الْقَاصِرَةِ، وَشَرْعُ الرَّبِّ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ فَوْقَ عُقُولِنَا وَعِبَارَاتِنَا، فَنَقُولُ: [الرِّبَا نَوْعَانِ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ وَالْجَلِيُّ النَّسِيئَةُ] . الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الْجَلِيِّ؛ فَتَحْرِيمُ الْأَوَّلِ قَصْدًا، وَتَحْرِيمُ الثَّانِي وَسِيلَةً: فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْلُ أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَالِ، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَالِ، حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلَافًا مُؤَلَّفَةً؛ وَفِي الْغَالِبِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا مُعْدَمٌ مُحْتَاجٌ؛ فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعَ مِنْ وَقْتٍ إلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَزِيدُ مَالُ الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنْهُ لِأَخِيهِ، فَيَأْكُلُ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَيَحْصُلُ أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا، وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُؤَكِّلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَآذَنَ مَنْ لَمْ يَدَعْهُ بِحَرْبِهِ وَحَرْبِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ فِي كَبِيرَةٍ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الرِّبَا الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ فَيَقُولُ لَهُ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ زَادَهُ فِي الْمَالِ وَزَادَهُ هَذَا فِي الْأَجَلِ؛ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرِّبَا ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فَالْمُرَابِي ضِدُّ الْمُتَصَدِّقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: ٢٧٦] وَقَالَ: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: ٣٩] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: ١٣٠] {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: ١٣١]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute