للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَرِيمٌ لِانْقِضَاءِ النِّكَاحِ لَمَّا كَمُلَ، وَلِهَذَا تَجِدُ فِيهَا رِعَايَةً لِحَقِّ الزَّوْجِ وَحُرْمَةً لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ احْتِرَامِهِ وَرِعَايَةِ حُقُوقِهِ تَحْرِيمُ نِسَائِهِ بَعْدَهُ، وَلَمَّا كَانَتْ نِسَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا هُنَّ نِسَاؤُهُ فِي الْآخِرَةِ قَطْعًا، لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهِنَّ بَعْدَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَعْلُومًا فِي حَقِّهِ، فَلَوْ حُرِّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى غَيْرِهِ لَتَضَرَّرَتْ ضَرَرًا مُحَقَّقًا بِغَيْرِ نَفْعٍ مَعْلُومٍ، وَلَكِنْ لَوْ تَأَيَّمَتْ عَلَى أَوْلَادِهَا كَانَتْ مَحْمُودَةً عَلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُبَالِغُونَ فِي احْتِرَامِ حَقِّ الزَّوْجِ وَتَعْظِيمِ حَرِيمِ هَذَا الْعَقْدِ غَايَةَ الْمُبَالَغَةِ مِنْ تَرَبُّصِ سَنَةٍ فِي شَرِّ ثِيَابِهَا وَحَفْشِ بَيْتِهَا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِشَرِيعَتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا رَحْمَةً وَحِكْمَةً وَمَصْلَحَةً وَنِعْمَةً، بَلْ هِيَ مِنْ أَجْلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ.

وَكَانَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؛ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ مَضْرُوبَةٍ لَهَا، وَأَوْلَى الْمُدَدِ بِذَلِكَ الْمُدَّةُ الَّتِي يُعْلَمُ فِيهَا بِوُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ مُضْغَةً فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فِي الطَّوْرِ الرَّابِعِ، فَقُدِّرَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ لِتَظْهَرَ حَيَاتُهُ بِالْحَرَكَةِ إنْ كَانَ ثَمَّ حَمْلٌ. .

[فَصَلِّ حِكْمَةُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ]

وَأَمَّا عِدَّةُ الطَّلَاقِ فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَسِيسِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ بَعْضَ مَقَاصِدِهَا.

وَلَا يُقَالُ: " هِيَ تَعَبُّدٌ " لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ حُكْمُهَا إذَا عُرِفَ مَا فِيهَا مِنْ الْحُقُوقِ؛ فَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ، وَهُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَطَلَبُ مَرْضَاتِهِ، وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ وَهُوَ اتِّسَاعُ زَمَنِ الرَّجْعَةِ لَهُ، وَحَقٌّ لِلزَّوْجَةِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهَا لِلنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ، وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ وَأَنْ لَا يَخْتَلِطَ بِغَيْرِهِ، وَحَقٌّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ لَا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَرَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ فَرُتِّبَ عَلَى رِعَايَةِ حَقِّهِ هُوَ لُزُومُ الْمَنْزِلِ وَأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ وَلَا تُخْرَجُ، هَذَا مُوجِبُ الْقُرْآنِ وَمَنْصُوصُ إمَامِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِمَامِ أَهْلِ الرَّأْيِ.

وَرُتِّبَ عَلَى حَقِّ الْمُطَلِّقِ تَمْكِينُهُ مِنْ الرَّجْعَةِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَعَلَى حَقِّهَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَعَلَى حَقِّ الْوَلَدِ ثُبُوتُ نَسَبِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِأَبِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي دُخُولُهُ عَلَى بَصِيرَةٍ وَرَحِمٍ بَرِيءٍ غَيْرِ مَشْغُولٍ بِوَلَدٍ لِغَيْرِهِ؛ فَكَانَ فِي جَعْلِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>