وَقَالَ سَيْفُ اللَّهِ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَزَيْدٌ: هُوَ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ؛ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ.
[الصَّحَابَةُ فَتَحُوا بَابَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ]
فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَثَّلُوا الْوَقَائِعَ بِنَظَائِرِهَا، وَشَبَّهُوهَا بِأَمْثَالِهَا، وَرَدُّوا بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ فِي أَحْكَامِهَا، وَفَتَحُوا لِلْعُلَمَاءِ بَابَ الِاجْتِهَادِ، وَنَهَجُوا لَهُمْ طَرِيقَهُ، وَبَيَّنُوا لَهُمْ سَبِيلَهُ، وَهَلْ يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» ، إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ وَذِهْنَهُ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ كَمَالِ الْفَهْمِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، وَيُعْمِي عَلَيْهِ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَالْقَصْدِ، فَمَنْ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى الْغَضَبِ وَحْدَهُ دُونَ الْهَمِّ الْمُزْعِجِ وَالْخَوْفِ الْمُقْلِقِ وَالْجُوعِ وَالظَّمَأِ الشَّدِيدِ وَشُغْلِ الْقَلْبِ الْمَانِعِ مِنْ الْفَهْمِ فَقَدْ قَلَّ فِقْهُهُ وَفَهْمُهُ، وَالتَّعْوِيلُ فِي الْحُكْمِ عَلَى قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْأَلْفَاظُ لَمْ تُقْصَدْ لِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلْمَعَانِي، وَالتَّوَصُّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَمُرَادُهُ يَظْهَرُ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهِ تَارَةً، وَمِنْ عُمُومِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ تَارَةً، وَقَدْ يَكُونُ فَهِمَهُ مِنْ الْمَعْنَى أَقْوَى، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ اللَّفْظِ أَقْوَى، وَقَدْ يَتَقَارَبَانِ كَمَا إذَا قَالَ الدَّلِيلُ لِغَيْرِهِ: لَا تَسْلُكُ الطَّرِيقَ فَإِنَّ فِيهَا مَنْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، أَوْ هِيَ مَعْطَشَةٌ مَخُوفَةٌ عَلِمَ هُوَ وَكُلُّ سَامِعٍ أَنَّ قَصْدَهُ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِهِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ نَهْيَهُ عَنْ كُلِّ طَرِيقٍ هَذَا شَأْنُهَا؛ فَلَوْ خَالَفَهُ وَسَلَكَ طَرِيقًا أُخْرَى عَطِبَ بِهَا حَسُنَ لَوْمُهُ، وَنُسِبَ إلَى مُخَالَفَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَلَوْ قَالَ الطَّبِيبُ لِلْعَلِيلِ وَعِنْدَهُ لَحْمُ ضَأْنٍ: لَا تَأْكُلُ الضَّأْنَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي مَادَّةِ الْمَرَضِ، لِفَهْمِ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْهُ أَنَّ لَحْمَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كَذَلِكَ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْهُمَا لَعُدَّ مُخَالِفًا، وَالتَّحَاكُمُ فِي ذَلِكَ إلَى فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ، وَلَوْ مَنَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِإِحْسَانِهِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت لَهُ لُقْمَةً، وَلَا شَرِبْتُ لَهُ مَاءً، يُرِيدُ خَلَاصَهُ مِنْ مِنَّتِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبِلَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ وَالذَّهَبَ وَالثِّيَابَ وَالشَّاةَ وَنَحْوَهَا لَعَدَّهُ الْعُقَلَاءُ وَاقِعًا فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَمُرْتَكِبًا لِذُرْوَةِ سَنَامِهِ؛ وَلَوْ لَامَهُ عَاقِلٌ عَلَى كَلَامِهِ لِمَنْ لَا يَلِيقُ بِهِ مُحَادَثَتُهُ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُهُ، ثُمَّ رَآهُ خَالِيًا بِهِ يُوَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ وَيُعَاشِرُهُ وَلَا يُكَلِّمُهُ لَعَدُّوهُ مُرْتَكِبًا لِأَشَدَّ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ وَأَعْظَمَهُ.
وَهَذَا مِمَّا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ؛ وَلِهَذَا فَهِمَتْ الْأُمَّةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: ١٠] ، جَمِيعَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ مِنْ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالْمَسْكَنِ وَغَيْرِهَا.
[الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مَرْكُوزٌ فِي فِطَرِ النَّاسِ]
وَفَهِمْتُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] إرَادَةَ النَّهْيِ عَنْ جَمِيعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute