«وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى " الْفَهْمَ الْفَهْمَ ".
[فَصْلٌ تَنَاقُضُ أَهْلِ الْقِيَاسِ دَلِيلُ فَسَادِهِ]
قَالُوا: وَمِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ الْقِيَاسِ وَبُطْلَانَهُ تَنَاقُضُ أَهْلِهِ فِيهِ، وَاضْطِرَابُهُمْ تَأْصِيلًا وَتَفْصِيلًا.
أَمَّا التَّأْصِيلُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَهِيَ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَالدَّلَالَةِ، وَالشَّبَهِ، وَالطَّرْدِ، وَهُمْ غُلَاتُهُمْ كَفُقَهَاء مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَغَيْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّونَ فِي طَرَائِفِهِمْ عَلَى مُنَازِعِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنْعِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ بِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا تُبْنَى عَلَيْهِ الْقَنَاطِرُ وَلَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ؛ فَلَا تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي هِيَ إلَى التَّلَاعُبِ بِالدِّينِ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى تَعْظِيمِهِ.
وَطَائِفَةٌ يَحْتَجُّونَ بِالْأَقْيِسَةِ الثَّلَاثَةِ دُونَهُ، وَتَقُولُ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ أَنْ يَكُونَ الْجَامِعُ هُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ: أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ: أَنْ يَتَجَاذَبَ الْحَادِثَةَ أَصْلَانِ حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلَيْنِ أَوْصَافٌ، فَتَلْحَقُ الْحَادِثَةُ بِأَكْثَرِ الْأَصْلَيْنِ شَبَهًا بِهَا، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِالْإِبَاحَةِ أَشْبَهَ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ وَبِالْحَظْرِ بِثَلَاثَةٍ؛ فَيَلْحَقُ بِالْإِبَاحَةِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذَا النَّوْعِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ: الْقِيَاسُ أَنْ يُقَاسَ الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ، فَأَمَّا إذَا أَشْبَهَهُ فِي حَالٍ وَخَالَفَهُ فِي حَالٍ فَأَرَدْتَ أَنْ تَقِيسَ عَلَيْهِ فَهَذَا خَطَأٌ، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَوَافَقَهُ فِي بَعْضِهَا، فَإِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَمَا أَقْبَلْتَ بِهِ وَأَدْبَرْتَ بِهِ فَلَيْسَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ؛ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا قِيَاسَ إلَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَقَطْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً. .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقِيَاسِيُّونَ فِي مَحَلِّ الْقِيَاسِ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يَجْرِي فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا بَلْ لَا تُثْبِتُ الْأَسْمَاءُ قِيَاسًا، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْقِيَاسِ الْأَحْكَامُ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَأَجْرَاهُ جُمْهُورُهُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَاللُّغَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا، وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَتْ طَائِفَةٌ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ فَقَطْ، وَاسْتَثْنَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَعَهَا الْأَسْبَابَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute