بِحَدٍّ غَيْرِ الْمُتَعَارَفِ، وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّرَخُّصِ وَالسَّفَهِ وَالْجُنُونِ الْمُوجِبِ لِلْحَجْرِ وَالشِّقَاقِ الْمُوجِبِ لِبَعْثِ الْحَكَمَيْنِ وَالنُّشُوزِ الْمُسَوِّغِ لِهَجْرِ الزَّوْجَةِ وَضَرْبِهَا وَالتَّرَاضِي الْمُسَوِّغِ لِحَلِّ التِّجَارَةِ وَالضِّرَارِ الْمُحَرَّمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ فِي تَنَاوُلِهِ لِمُسَمَّاهُ الْعُرْفِيِّ كَالنَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي تَنَاوُلِهِمَا لِمُسَمَّاهُمَا.
وَمَعْرِفَةُ حُدُودِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَمُرَاعَاتُهَا مُغْنٍ عَنْ الْقِيَاسِ غَيْرُ مُحْوِجٍ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقِيَاسِ مَنْ قَصَّرَ [فِي] هَذِهِ الْحُدُودِ، وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، وَلَمْ يُعْطِهَا حَقَّهَا مِنْ الدَّلَالَةِ.
مِثَالُهُ تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي مَعْرِفَةِ حَدِّ الْخَمْرِ حَيْثُ خَصُّوهُ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ، فَلَمَّا احْتَاجُوا إلَى تَقْرِيرِ تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ سَلَكُوا طَرِيقَ الْقِيَاسِ، وَقَاسُوا مَا عَدَا ذَلِكَ النَّوْعِ فِي التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ، فَنَازَعَهُمْ الْآخَرُونَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ، وَقَالُوا: لَا يَجْرِي فِي الْأَسْبَابِ، وَطَالَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمْ، وَكَثُرَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَقْصِيرِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ حَدِّ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَدْ حَدَّهُ بِحَدٍّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْكِرِ فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» فَأَغْنَانَا هَذَا الْحَدُّ عَنْ بَابٍ طَوِيلٍ عَرِيضٍ كَثِيرِ التَّعَبِ مِنْ الْقِيَاسِ، وَأَثْبَتْنَا التَّحْرِيمَ بِنَصِّهِ لَا بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ فِي لَفْظِ الْمَيْسِرِ حَيْثُ خَصُّوهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى الشِّطْرَنْجِ مَثَلًا فَرَامُوا تَحْرِيمَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ، فَنَازَعَهُمْ آخَرُونَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ وَصِحَّتِهِ، وَطَالَ النِّزَاعُ، وَلَوْ أَعْطَوْا لَفْظَ الْمَيْسِرِ حَقَّهُ وَعَرَفُوا حَدَّهُ لَعَلِمُوا أَنَّ دُخُولَ الشِّطْرَنْجِ فِيهِ أَوْلَى مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَنْ صَرَّحَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَقَالُوا: الشِّطْرَنْجُ مِنْ الْمَيْسِرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَقْصِيرُ طَائِفَةٍ فِي لَفْظِ السَّارِقِ حَيْثُ أَخْرَجُوا مِنْهُ نَبَّاشَ الْقُبُورِ، ثُمَّ رَامُوا قِيَاسَهُ فِي الْقَطْعِ عَلَى السَّارِقِ، فَقَالَ لَهُمْ مُنَازِعُوهُمْ: الْحُدُودُ وَالْأَسْمَاءُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، فَأَطَالُوا وَأَعْرَضُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَعْطَوْا لَفْظَ السَّارِقِ حَدَّهُ لَرَأَوْا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَدِّهِ وَمُسَمَّاهُ بَيْنَ سَارِقِ الْأَثْمَانِ وَسَارِقِ الْأَكْفَانِ، وَأَنَّ إثْبَاتَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالنُّصُوصِ لَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ قَوْلًا نَدِينُ اللَّهَ بِهِ وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِنَا لَهُ وَنَسْأَلُهُ الثَّبَاتَ عَلَيْهِ: إنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تُحْوِجْنَا إلَى قِيَاسٍ قَطُّ، وَإِنَّ فِيهَا غُنْيَةً وَكِفَايَةً عَنْ كُلِّ رَأْيٍ وَقِيَاسٍ وَسِيَاسَةٍ وَاسْتِحْسَانٍ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِفَهْمٍ يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدَهُ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩] .
وَقَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: " إلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ "
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute