للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَطَائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالْقُوتِ وَمَا يُصْلِحُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كَمَا سَتَرَاهُ.

وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْعِلَّةُ فِيهِمَا كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: الْعِلَّةُ فِيهِمَا الثَّمَنِيَّةُ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ إسْلَامِهِمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مِنْ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِمَا؛ فَلَوْ كَانَ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ رِبَوِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُمَا إلَى أَجَلٍ بِدَرَاهِمَ نَقْدًا؛ فَإِنَّ مَا يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُهُ جَازَ التَّفَاضُلُ فِيهِ دُونَ النِّسَاءِ، وَالْعِلَّةُ إذَا انْتَقَضَتْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا.

وَأَيْضًا فَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ لَيْسَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ، فَهُوَ طَرْدٌ مَحْضٌ، بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالثَّمَنِيَّةِ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ تَقْوِيمُ الْأَمْوَالِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لَا يَرْتَفِعُ وَلَا يَنْخَفِضُ؛ إذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ، بَلْ الْجَمِيعُ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الْأَشْيَاءُ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَقُومُ هُوَ بِغَيْرِهِ؛ إذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلَاتُ النَّاسِ، وَيَقَعُ الْخُلْفُ، وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ، كَمَا رَأَيْت مِنْ فَسَادِ مُعَامَلَاتِهِمْ وَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِهِمْ حِينَ اُتُّخِذَتْ الْفُلُوسُ سِلْعَةً تُعَدُّ لِلرِّبْحِ فَعَمَّ الضَّرَرُ وَحَصَلَ الظُّلْمُ، وَلَوْ جَعَلْت ثَمَنًا وَاحِدًا لَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْقُصُ بَلْ تَقُومُ بِهِ الْأَشْيَاءُ وَلَا تَقُومُ هِيَ بِغَيْرِهَا لِصُلْحِ أَمْرِ النَّاسِ، فَلَوْ أُبِيحَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ - مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَ صِحَاحًا وَيَأْخُذَ مُكَسَّرَةً أَوْ خِفَافًا وَيَأْخُذَ ثِقَالًا أَكْثَرَ مِنْهَا - لَصَارَتْ مَتْجَرًا، أَوْ جَرَّ ذَلِكَ إلَى رِبَا النَّسِيئَةِ فِيهَا وَلَا بُدَّ؛ فَالْأَثْمَانُ لَا تُقْصَدُ لِأَعْيَانِهَا، بَلْ يُقْصَدُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى السِّلَعِ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لِأَعْيَانِهَا فَسَدَ أَمْرُ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنًى مَعْقُولٌ يَخْتَصُّ بِالنُّقُودِ لَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ.

[فَصَلِّ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْمَطْعُومِ]

فَصْلٌ:

[حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبَا النَّسَاءِ فِي الْمَطْعُومِ]

وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ فَحَاجَةُ النَّاسِ إلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا أَقْوَاتُ الْعَالَمِ، وَمَا يُصْلِحُهَا؛ فَمِنْ رِعَايَةِ

مَصَالِحِ الْعِبَادِ

أَنْ مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ، وَمُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَالًّا مُتَفَاضِلًا وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا؛ وَجُوِّزَ لَهُمْ التَّفَاضُلُ فِيهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>