فَمُخَالَفَتُهَا أَسْهَلُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحَادِيثِ التَّحْلِيلِ، وَالْحَقُّ مُوَافَقَةُ جَمِيعِ النُّصُوصِ، وَأَنْ لَا يُتْرَكَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنْ كَوْنِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَالتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، ثُمَّ صَارَ فِي بَقِيَّةِ خِلَافَةِ عُمَرَ الثَّلَاثُ ثَلَاثٌ وَالتَّحْلِيلُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَعُمَرُ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَكُلُّهُمْ عَلَى مِثْلِ قَوْلِهِ فِيهِ، ثُمَّ صَارَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ التَّحْلِيلُ كَثِيرًا مَشْهُورًا وَالثَّلَاثُ ثَلَاثًا.
وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَة مُعَاقَبَةُ النَّاسِ بِمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ عُمَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ حَرَامٌ، لَا سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَى تَحْرِيمَهُ، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ مِنْ لَمْ يَرْتَكِبْ مُحَرَّمًا عِنْدَ نَفْسِهِ؟ الثَّانِي: أَنَّ عُقُوبَتَهُمْ بِذَلِكَ تَفْتَحُ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّحْلِيلِ الَّذِي كَانَ مَسْدُودًا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ، وَالْعُقُوبَةُ إذَا تَضَمَّنَتْ مُفْسِدَةً أَكْثَرَ مِنْ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ كَانَ تَرْكُهَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ التَّحْلِيلَ مِمَّا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَمَعَاذَ اللَّهِ لَكَانَ الْمَنْعُ مِنْهُ إذَا وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِي قَدْ تَفَاحَشَ قُبْحُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَتَعَيَّنَ عَلَى الْمُفْتِينَ وَالْقُضَاةِ الْمَنْعُ مِنْهُ جُمْلَةً، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِهِ جَائِزٌ؛ إذْ لَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ إلَى التَّحْلِيلِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
[فَصْلٌ مُوجِبَاتُ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا]
فَصْلٌ [مُوجِبَاتُ الْأَيْمَانِ وَالْأَقَارِيرِ وَالنُّذُورِ]
الْمِثَالُ الثَّامِنُ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ: مُوجِبَاتُ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا؛ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا حَلَفَ " لَا رَكِبْت دَابَّةً " وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلَا الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْفَرَسَ خَاصَّةً حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَالُ مِمَّنْ عَادَتُهُ رُكُوبُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الدَّوَابِّ كَالْأُمَرَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ؛ فَيُفْتَى فِي كُلِّ بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ.
وَيُفْتَى كُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ عَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ " لَا أَكَلْت رَأْسًا " فِي بَلَدٍ عَادَتُهُمْ أَكْلُ رُءُوسِ الضَّأْنِ خَاصَّةً لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ رُءُوسِ السَّمَكِ حَنِثَ بِأَكْلِ رُءُوسِهَا، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَا اشْتَرَيْت كَذَا وَلَا بِعْته وَلَا حَرَثْت هَذِهِ الْأَرْضَ وَلَا زَرَعْتهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَعَادَتُهُ أَنْ لَا يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَالْمُلُوكِ حَنِثَ قَطْعًا بِالْإِذْنِ وَالتَّوْكِيلِ فِيهِ، فَإِنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute