جَوَابِهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَوَابَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكَذْلِكَ تَقْلِيدًا لَهُ؛ إذْ لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلِطَ، وَلَوْ نُبِّهَ لَرَجَعَ، وَهُوَ مَعْذُورٌ، وَلَيْسَ المكذلك مَعْذُورًا، بَلْ مُفْتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ فَإِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُفْتِينَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ثُلُثَاهُمْ فِي النَّارِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةً لَا يَخْفَى وَجْهُ الصَّوَابِ فِيهَا بِحَيْثُ لَا يُظَنُّ بالمكذلك أَنَّهُ قَلَّدَهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُ أَوْ تَكُونَ خَفِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فَالْأَوْلَى الْكَذْلَكَةُ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَشَهَادَةٌ لِلْمُفْتِي بِالصَّوَابِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ وَالْحَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً بِحَيْثُ يَظُنُّ بالمكذلك أَنَّهُ وَافَقَهُ تَقْلِيدًا مَحْضًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ إيضَاحُ مَا أَشْكَلَهُ الْأَوَّلُ وَزِيَادَةُ بَيَانِ أَوْ ذِكْرُ قَيْدٍ أَوْ تَنْبِيهٍ عَلَى أَمْرٍ أَغْفَلَهُ فَالْجَوَابُ الْمُسْتَقِلُّ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَ كَذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَجَابَ اسْتِقْلَالًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الَّذِي يُمْنَعُهُ مِنْ الْكَذْلَكَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ صَوَابَهُ تَقْلِيدًا لَهُ كَمَا قَلَّدَ الْمُبْتَدِي مَنْ فَوْقَهُ؟ فَإِذَا أَفْتَى الْأَوَّلُ بِالتَّقْلِيدِ الْمَحْضِ فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ الْمُكَذْلِكَ مِنْ تَقْلِيده؟ قِيلَ: الْجَوَاب مِنْ وُجُوه، أَحَدهَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُفْتِي الْأَوَّلِ أَيْضًا، فَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، حُكِيَ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ مُسْتَوْفَى.
الثَّانِي: أَنْ هَذَا الْأَوَّلَ وَإِنْ جَازَ لَهُ التَّقْلِيدُ لِلضَّرُورَةِ فَهَذَا الْمُكَذْلِكُ الْمُتَكَلِّفُ لَا ضَرُورَة لَهُ إلَى تَقْلِيدِهِ، بَلْ هَذَا مِنْ بِنَاءِ الضَّعِيفِ عَلَى الضَّعِيفِ، وَذَلِكَ لَا يَسُوغُ، كَمَا لَا تَسُوغُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ هَذَا لَوْ سَاغَ لَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُفْتِينَ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا بِجَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُفْتِي أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَتَوَى المفتى لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَته لَهُ]
[لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ مِنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ أَبَاهُ وَابْنَهُ وَشَرِيكَهُ وَمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ، وَلَا يَقْضِيَ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِفْتَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الرِّوَايَةِ، فَكَأَنَّهُ حُكْمٌ عَامٌّ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ فَإِنَّهُ يَخُصَّ الْمَشْهُودَ لَهُ وَالْمَحْكُومَ لَهُ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ الرَّاوِي فِي حُكْمِ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ، وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْفَتْوَى الَّتِي يُفْتِي بِهَا، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَابِيَ مَنْ يُفْتِيهِ فَيُفْتِيَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ صِدِّيقَهُ بِشَيْءٍ وَيُفْتِيَ غَيْرَهُمْ بِضِدِّهِ مُحَابَاةً، بَلْ هَذَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُحَابَاةِ، وَمِثَالُ هَذَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ قَوْلٌ بِالْمَنْعِ وَقَوْلٌ بِالْإِبَاحَةِ، فَيُفْتِي ابْنَهُ وَصِدِّيقَهُ بِقَوْلِ الْإِبَاحَةِ وَالْأَجْنَبِيَّ بِقَوْلِ الْمَنْعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute