للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْحُكْمَ بِالتَّقْلِيدِ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لَكِنْ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ لِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا - وَقَدْ جَلَسَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فَذَكَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُفْتِيَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْفَظَ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ ثُمَّ يُفْتِي - فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَنْتَ تَحْفَظُ هَذَا؟ فَقَالَ: إنْ لَمْ أَحْفَظْ هَذَا فَأَنَا أُفْتِي بِقَوْلِ مَنْ كَانَ يَحْفَظُهُ، وَقَالَ [أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَشَّارٍ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِنَا: مَا ضَرَّ رَجُلًا عِنْدَهُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ أَوْ أَرْبَعٌ مِنْ فَتَاوَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَسْتَنِدُ إلَى هَذِهِ السَّارِيَةِ وَيَقُولُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.

[فَتَوَى الْعَامَيْ فِي مَسْأَلَة عِلْم حُكْمهَا]

[هَلْ لِلْعَامِّيِّ إذَا عَلِمَ مَسْأَلَةً أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا؟] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ:

إذَا عَرَفَ الْعَامِّيُّ حُكْمَ حَادِثَةٍ بِدَلِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَيَسُوغَ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ فِيهِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، أَحَدُهَا: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِحُكْمِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ عَنْ دَلِيلِهَا كَمَا حَصَلَ لِلْعَالِمِ، وَإِنْ تَمَيَّزَ الْعَالِمُ عَنْهُ بِقُوَّةٍ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ وَدَفْعِ الْمُعَارِضِ لَهُ، فَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ.

وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مُطْلَقًا؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ، وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِشُرُوطِهِ، وَمَا يُعَارِضُهُ، وَلَعَلَّهُ يَظُنُّ دَلِيلًا مَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ.

وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الدَّلِيلُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً جَازَ لَهُ الْإِفْتَاءُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرْشِدَ غَيْرَهُ إلَيْهِ وَيَدُلَّهُ عَلَيْهِ.

[خِصَالٌ يَجِبُ تَحَقُّقُهَا فِيمَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لَلْفُتْيَا] الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِهِ فِي الْخُلْعِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ) ، أَوَّلُهَا: أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نُورٌ وَلَا عَلَى كَلَامِهِ نُورٌ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ وَحِلْمٌ وَوَقَارٌ وَسَكِينَةٌ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا عَلَى مَا هُوَ فِيهِ وَعَلَى مَعْرِفَتِهِ.

الرَّابِعَةُ: الْكِفَايَةُ وَإِلَّا مَضَغَهُ النَّاسُ.

الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَلَالَةِ أَحْمَدَ وَمَحَلُّهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ هِيَ دَعَائِمُ الْفَتْوَى، وَأَيُّ شَيْءِ نَقَصَ مِنْهَا ظَهَرَ الْخَلَلُ فِي الْمُفْتِي بِحَسْبِهِ.

[النِّيَّةُ وَمَنْزِلَتُهَا] فَأَمَّا النِّيَّةُ فَهِيَ رَأْسُ الْأَمْرِ وَعَمُودُهُ وَأَسَاسُهُ وَأَصْلُهُ الَّذِي عَلَيْهِ يُبْنَى؛ فَإِنَّهَا رُوحُ الْعَمَلِ وَقَائِدُهُ وَسَائِقُهُ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهَا يُبْنَى عَلَيْهَا، يَصِحُّ بِصِحَّتِهَا وَيَفْسُدُ بِفَسَادِهَا وَبِهَا يُسْتَجْلَبُ التَّوْفِيقُ، وَبِعَدَمِهَا يَحْصُلُ الْخِذْلَانُ، وَبِحَسَبِهَا تَتَفَاوَتُ الدَّرَجَاتُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>