للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّعْزِيرُ وَمَوَاضِعُهُ]

وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَفِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ؛ فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ فِيهِ الْحَدُّ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَنَوْعٌ فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا حَدَّ فِيهِ، وَنَوْعٌ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ؛ فَالْأَوَّلُ - كَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَالثَّانِي: - كَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَالْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ، وَالثَّالِثُ - كَوَطْءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْخَلْوَةِ بِهَا وَدُخُولِ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَالْحَدُّ فِيهِ مُغْنٍ عَنْ التَّعْزِيرِ، وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهَلْ يَجِبُ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِيهِ تَعْزِيرٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَفِيهِ التَّعْزِيرُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَكِنْ هَلْ هُوَ كَالْحَدِّ؛ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَرْكُهُ، أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي إقَامَتِهِ، وَتَرْكِهِ كَمَا يَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِهِ فِي قَدْرِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ، الثَّانِي قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

وَمَا كَانَ مِنْ الْمَعَاصِي مُحَرَّمَ الْجِنْسِ كَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَشْرَعْ لَهُ كَفَّارَةً، وَلِهَذَا لَا كَفَّارَةَ فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَالسَّرِقَةِ، وَطَرْدُ هَذَا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ وَلَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ كَمَا يَقُولُهُ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَخْفِيفًا عَنْ مُرْتَكِبِهِمَا، بَلْ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَعْمَلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا عَمَلُهَا فِيهَا فِيمَا كَانَ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ وَحُرِّمَ لِعَارِضٍ كَالْوَطْءِ فِي الصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ، وَطَرْدُ هَذَا وَهُوَ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي وَطْءِ الْحَائِضِ، وَهُوَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ لَوْ لَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِهِ، فَكَيْف وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ مَرْفُوعَةً وَمَوْقُوفَةً؟ ، وَعَكْسُ هَذَا الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ لَمْ يُبَحْ قَطُّ، وَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الْكَفَّارَةُ لَوَجَبَتْ فِي الزِّنَا وَاللِّوَاطِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ فَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّارِعِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْمُطَابَقَةِ لِلْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ.

[فَصَلِّ اشْتِرَاطُ الْحُجَّةِ لِإِيقَاعِ الْعُقُوبَةِ]

فَصْلٌ [مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ اشْتِرَاطُ الْحُجَّةِ لِإِيقَاعِ الْعُقُوبَةِ]

وَكَانَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْجُنَاةَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ كَمَا لَمْ يُعَذِّبْهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ الْحُجَّةَ الَّتِي يَأْخُذُهُمْ بِهَا إمَّا مِنْهُمْ وَهِيَ الْإِقْرَارُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إقْرَارِ الْحَالِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَأَصْدَقُ مِنْ إقْرَارِ اللِّسَانِ، فَإِنَّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ شَوَاهِدُ الْحَالِ بِالْجِنَايَةِ كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ وَقَيْئِهَا وَحَبَلِ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ وَوُجُودِ الْمَسْرُوقِ فِي دَارِ السَّارِقِ وَتَحْتَ ثِيَابِهِ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِمَّنْ قَامَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةُ إخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ الَّتِي تَحْتَمِلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>