فَإِنَّهَا رِجْسٌ» بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: ١٤٥] نَهَى عَنْ كُلِّ رِجْسٍ، وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْهِرِّ: «لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كُلُّ مَا هُوَ مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجَسٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ " لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ " نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ طَعَامٍ كَذَلِكَ، وَإِذَا قَالَ: " لَا تَشْرَبْ هَذَا الشَّرَابَ فَإِنَّهُ مُسْكِرٌ " نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَ " لَا تَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا فَاجِرَةٌ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
الْخَطَأُ الثَّانِي: تَقْصِيرُهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، فَكَمْ مِنْ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ، وَسَبَبُ هَذَا الْخَطَأِ حَصْرُهُمْ الدَّلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ إيمَائِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَإِشَارَتِهِ وَعُرْفِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ قَوْلِهِ: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: ٢٣] ضَرْبًا وَلَا سَبًّا وَلَا إهَانَةً غَيْرَ لَفْظَةِ أُفٍّ، فَقَصَّرُوا فِي فَهْمِ الْكِتَابِ كَمَا قَصَّرُوا فِي اعْتِبَارِ الْمِيزَانِ.
[الْخَطَأُ الثَّالِثُ تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ]
[الِاسْتِصْحَابُ وَأَقْسَامُهُ]
الْخَطَأُ الثَّالِثُ: تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَجَزْمُهُمْ بِمُوجَبِهِ، لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالنَّاقِلِ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ عِلْمًا بِالْعَدَمِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الِاسْتِصْحَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ أَقْسَامَهُ وَمَرَاتِبَهَا فَالِاسْتِصْحَابُ: اسْتِفْعَالٌ مِنْ الصُّحْبَةِ، وَهِيَ اسْتِدَامَةُ إثْبَاتِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَوْ نَفْيُ مَا كَانَ مَنْفِيًّا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: اسْتِصْحَابُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاسْتِصْحَابُ الْوَصْفِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَاسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
[اسْتِصْحَابُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ]
فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِبْقَاءِ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَأَنْ يُدْفَعَ بِهِ مَنْ ادَّعَى تَغْيِيرَ الْحَالِ لِإِبْقَاءِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ، فَإِنَّ بَقَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ إنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى مُوجِبِ الْحُكْمِ، لَا إلَى عَدَمِ الْمُغَيِّرِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ دَلِيلًا نَافِيًا وَلَا مُثْبِتًا أَمْسَكْنَا، لَا نُثْبِتُ الْحُكْمَ وَلَا نَنْفِيهِ، بَلْ نَدْفَعُ بِالِاسْتِصْحَابِ دَعْوَى مَنْ أَثْبَتَهُ، فَيَكُونُ حَالُ الْمُتَمَسِّكِ [بِالِاسْتِصْحَابِ] كَحَالِ الْمُعْتَرِضِ مَعَ الْمُسْتَدِلِّ، فَهُوَ يَمْنَعُهُ الدَّلَالَةَ حَتَّى يُثْبِتَهَا، لَا أَنَّهُ يُقِيمُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ، وَهَذَا غَيْرُ حَالِ الْمُعَارِضِ، فَالْمُعَارِضُ لَوْنٌ وَالْمُعْتَرِضُ لَوْنٌ، فَالْمُعْتَرِضُ يَمْنَعُ دَلَالَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute