للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقُسِّمَتْ عَلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَعْطُونِي جُزْءًا مِنْهَا بِشَاةٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَصْلُحُ هَذَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَسْت أَعْلَمُ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ.

وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ - إنْ ثَبَتَ - أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مَقْصُودًا لِلَّحْمِ كَشَاةٍ يُقْصَدُ لَحْمُهَا فَتُبَاعُ بِلَحْمٍ؛ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ لَحْمًا بِلَحْمٍ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَاللَّحْمُ قُوتٌ مَوْزُونٌ فَيَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِهِ اللَّحْمُ كَمَا إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ أَوْ مَأْكُولًا لَا يُقْصَدُ لَحْمُهُ كَالْفَرَسِ تُبَاعُ بِلَحْمِ إبِلٍ فَهَذَا لَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ بِهِ، بَقِيَ إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مَأْكُولًا لَا يُقْصَدُ لَحْمُهُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ اللَّحْمِ فَهَذَا يُشْبِهُ الْمُزَابَنَةَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ كَبَيْعِ صُبْرَةِ تَمْرٍ بِصُبْرَةِ زَبِيبٍ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ، إذْ غَايَتُهُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ، وَالتَّفَاضُلُ الْمُتَحَقِّقُ جَائِزٌ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ بِالْمَظْنُونِ؟ وَأَحْمَدُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ، لَا لِأَجْلِ التَّفَاضُلِ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُزَابَنَةِ وَشِبْهِ الْقِمَارِ، وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .

[فَصَلِّ الْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ إحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَحُدُّ عَلَى أَبِيهَا]

فَصْلٌ:

[الْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ إحْدَادِ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَحُدُّ عَلَى أَبِيهَا]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمَنْعُ الْمَرْأَةِ مِنْ الْإِحْدَادِ عَلَى أُمِّهَا وَأَبِيهَا فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَأَوْجَبَهُ عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ " فَيُقَالُ: هَذَا مِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَحِكْمَتِهَا وَرِعَايَتِهَا

لِمَصَالِحِ

الْعِبَادِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ؛ فَإِنَّ الْإِحْدَادَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ تَعْظِيمِ مُصِيبَةِ الْمَوْتِ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُبَالِغُونَ فِيهَا أَعْظَمَ مُبَالَغَةٍ، وَيُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ شَقَّ الْجُيُوبِ، وَلَطْمَ الْخُدُودِ، وَحَلْقَ الشُّعُورِ، وَالدُّعَاءَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَتَمْكُثُ الْمَرْأَةُ سَنَةً فِي أَضْيَقِ بَيْتٍ وَأَوْحَشْهُ لَا تَمَسُّ طِيبًا وَلَا تَدْهُنُ وَلَا تَغْتَسِلُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَسَخُّطٌ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى وَأَقْدَارِهِ، فَأَبْطَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَبْدَلَنَا بِهَا الصَّبْرَ وَالْحَمْدَ وَالِاسْتِرْجَاعَ الَّذِي هُوَ أَنْفَعُ لِلْمُصَابِ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ؛ وَلَمَّا كَانَتْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ لَا بُدَّ أَنْ تُحْدِثُ لِلْمُصَابِ مِنْ الْجَزَعِ وَالْأَلَمِ وَالْحُزْنِ مَا تَتَقَاضَاهُ الطِّبَاعُ سَمَحَ لَهَا الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ فِي الْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ تَجِدُ بِهَا نَوْعَ رَاحَةٍ وَتَقْضِي بِهَا وَطَرًا مِنْ الْحُزْنِ، كَمَا رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا، وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَمَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ، فَمَنَعَ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهَا مَرْجُوحَةٌ مَغْمُورَةٌ بِمَصْلَحَتِهَا، فَإِنَّ فِطَامَ النُّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ أَشَقِّ الْأُمُورِ عَلَيْهَا، فَأُعْطِيَتْ بَعْضَ الشَّيْءِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهَا تَرْكُ الْبَاقِي، فَإِنَّ النَّفْسَ إذَا أَخَذَتْ بَعْضَ مُرَادِهَا قَنَعَتْ بِهِ، فَإِذَا سُئِلَتْ تَرْكَ الْبَاقِي كَانَتْ إجَابَتُهَا إلَيْهِ أَقْرَبَ مِنْ إجَابَتِهَا لَوْ حُرِّمَتْ بِالْكُلِّيَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>