مُتَقَيِّدًا بِأَقْوَالِ ذَلِكَ الْإِمَامِ لَا يَعْدُوهَا إلَى غَيْرِهَا فَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِغَيْرِ قَوْلِ إمَامِهِ؛ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ حَكَاهُ عَنْ قَائِلِهِ حِكَايَةً مَحْضَةً.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَوْلُ غَيْرِ إمَامِهِ بِدَلِيلٍ رَاجِحٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أُصُولِ إمَامِهِ وَقَوَاعِدِهِ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَمَتَى قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا مَرْجُوحًا فَأُصُولُهُ تَرُدُّهُ وَتَقْتَضِي الْقَوْلَ الرَّاجِحَ، فَكُلُّ قَوْلٍ صَحِيحٍ فَهُوَ يَخْرُجُ عَلَى قَوَاعِدِ الْأَئِمَّةِ بِلَا رَيْبٍ؛ فَإِذَا تَبَيَّنَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ الْمُقَيَّدِ رُجْحَانُ هَذَا الْقَوْلِ وَصِحَّةُ مَأْخَذِهِ خَرَجَ عَلَى قَوَاعِدِ إمَامِهِ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ أَدَّى اجْتِهَادِي إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قُلْتُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَا، لَكِنِّي أَقُولُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ إنَّمَا يَسْأَلُنِي عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ أُعَرِّفَهُ أَنَّ الَّذِي أَفْتَيْتُهُ بِهِ غَيْرُ مَذْهَبِهِ، فَسَأَلْتُ شَيْخَنَا قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَكْثَرُ الْمُسْتَفْتِينَ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا سُؤَالُهُ عَنْ حُكْمِهَا وَمَا يُعْمَلُ بِهِ فِيهَا، فَلَا يَسَعُ الْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا يَعْتَقِدُ الصَّوَابَ فِي خِلَافِهِ.
[إذَا تَسَاوَى عِنْدَ الْمُفْتِي قَوْلَانِ فَمَاذَا يَصْنَعُ]
[إذَا تَسَاوَى عِنْدَ الْمُفْتِي قَوْلَانِ فَمَاذَا يَصْنَعُ؟] الْفَائِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: (إذَا اعْتَدَلَ عِنْدَ الْمُفْتِي قَوْلَانِ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ لَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ) ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَقِيلَ: بَلْ يُخَيِّرُ الْمُسْتَفْتِيَ فَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفْتِي بِمَا يَرَاهُ، وَاَلَّذِي يَرَاهُ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَقِيلَ: بَلْ يُفْتِيهِ بِالْأَحْوَطِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ.
قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ، وَلَا يُفْتِيهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَهَذَا كَمَا إذَا تَعَارَضَ عِنْدَ الطَّبِيبِ فِي أَمْرِ الْمَرِيضِ أَمْرَانِ خَطَأٌ وَصَوَابٌ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يُخَيِّرَهُ، وَكَمَا لَوْ اسْتَشَارَهُ فِي أَمْرٍ فَتَعَارَضَ عِنْدَهُ الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُشِيرَ بِأَحَدِهِمَا وَلَا يُخَيِّرَهُ، وَكَمَا لَوْ تَعَارَضَ عِنْدَهُ طَرِيقَانِ مُهْلِكَةٌ وَمُوَصِّلَةٌ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ طَرِيقُ الصَّوَابِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِقْدَامُ وَلَا التَّخْيِيرُ، فَمَسَائِلُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَوْلَى بِالتَّوَقُّفِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[هَلْ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْقَوْلِ الَّذِي رَجَعَ عَنْهُ إمَامُهُ]
[هَلْ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْقَوْلِ الَّذِي رَجَعَ عَنْهُ إمَامُهُ؟] الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ: (أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ يُفْتُونَ كَثِيرًا بِأَقْوَالِهِمْ الْقَدِيمَةِ الَّتِي رَجَعُوا عَنْهَا) ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ؛ فَالْحَنَفِيَّةُ يُفْتُونَ بِلُزُومِ الْمَنْذُورَاتِ الَّتِي مَخْرَجُهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute