للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ وَالْمُزَاحَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ، فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْزَحُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَيُبَاسِطُهُمْ» .

وَأَمَّا مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى فَيَجِدُّ كُلَّ الْجِدِّ، وَلِهَذَا «قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ يُمَازِحُهُ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي الْعَبْدَ؟ فَقَالَ: تَجِدُنِي رَخِيصًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ» وَقَصَدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالصِّيغَةُ صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْزَحُ وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " مَنْ يَتَزَوَّجُ أُمِّي أَوْ أُخْتِي " لَكَانَ مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَضْرِبُ مَنْ يَدْعُو امْرَأَتَهُ أُخْتَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُخْتُك هِيَ؟ إنَّمَا جَعَلَ إبْرَاهِيمُ ذَلِكَ حَاجَةً لَا مُزَاحًا» .

وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى نَقْلِهَا، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ عَقْدُهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيَنْهَى عَنْ الْبَيْعِ فِيهَا، وَمَنْ يَشْتَرِطُ لَهُ لَفْظًا بِالْعَرَبِيَّةِ رَاعَى فِيهِ ذَلِكَ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ الْهَزْلُ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ حُكْمَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، بِحُكْمِ وِلَايَةِ الشَّارِعِ عَلَى الْعَبْدِ، فَالْمُكَلَّفُ قَصَدَ السَّبَبَ، وَالشَّارِعُ قَصَدَ الْحُكْمَ، فَصَارَا مَقْصُودَيْنِ كِلَاهُمَا.

[فَصْلٌ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَكْمَلُ مَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ]

فَصْلٌ

[مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَكْمَلُ مَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ]

وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ أَكْمَلُ مَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَيَلْتَزِمُوا طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَلَا أَنْ يَشُقَّ بُطُونَهُمْ، بَلْ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا إذَا دَخَلُوا فِي دِينِهِ، وَيُجْرِي أَحْكَامَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، فَأَحْكَامُ الدُّنْيَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَحْكَامُ الْآخِرَةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قَبِلَ إسْلَامَ الْأَعْرَابِ، وَنَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِ طَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا، وَقَبِلَ إسْلَامَ الْمُنَافِقِينَ ظَاهِرًا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا، وَأَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ.

فَأَحْكَامُ الرَّبِّ تَعَالَى جَارِيَةٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ لِلْعِبَادِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أَظْهَرُوهُ خِلَافُ مَا أَبْطَنُوهُ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمُلَاعِنِ فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا قَالَ بَعْدَ أَنْ وَلَدَتْ الْغُلَامَ عَلَى شَبَهِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» فَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنَّمَا أَرَادَ بِهِ لَوْلَا حُكْمُ اللَّهِ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ لَكَانَ أَشْبَهُ الْوَلَدِ بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ يَقْتَضِي حُكْمًا آخَرَ غَيْرَهُ، وَلَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِاللَّعَّانِ أَلْغَى حُكْمَ هَذَا الشَّبَهِ، فَإِنَّهُمَا دَلِيلَانِ وَأَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>