للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهَا، وَهَؤُلَاءِ عِنْدَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ دِينًا؛ فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ، فَتَارِكُ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ أَسْوَأُ حَالًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مُرْتَكِبِ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ أَعْظَمُ مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا ذَكَرَهَا شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ؛ وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رَأْيٌ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِالدِّينِ هُمْ أَقَلُّ النَّاسِ دِينًا، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَأَيُّ دِينٍ وَأَيُّ خَيْرٍ فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ وَحُدُودَهُ تُضَاعُ وَدِينَهُ يُتْرَكُ وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْغَبُ عَنْهَا وَهُوَ بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِتُ اللِّسَانِ؟ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، وَهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا سَلَّمْت لَهُمْ مَآكِلَهُمْ وَرِيَاسَاتِهِمْ فَلَا مُبَالَاةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟ ، وَخِيَارُهُمْ الْمُتَحَزِّنُ الْمُتَلَمِّظُ، وَلَوْ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ أَوْ مَالِهِ بَذَلَ وَتَبَذَّلَ وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ وُسْعِهِ. وَهَؤُلَاءِ - مَعَ سُقُوطِهِمْ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَمَقْتِ اللَّهِ لَهُمْ - قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمَ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَهُوَ مَوْتُ الْقُلُوبِ؛ فَإِنَّهُ الْقَلْبُ كُلَّمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ أَتَمَّ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْوَى، وَانْتِصَارُهُ لِلدِّينِ أَكْمَلُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ أَثَرًا «أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إلَى مَلِكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَنْ اخْسِفْ بِقَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ وَفِيهِمْ فُلَانُ الْعَابِدُ؟ فَقَالَ: بِهِ فَابْدَأْ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِي يَوْمًا قَطُّ» .

وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ «أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ أَنْ قُلْ لِفُلَانٍ الزَّاهِدِ: أَمَّا زُهْدُك فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَعَجَّلْت بِهِ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُك إلَيَّ فَقَدْ اكْتَسَبْت بِهِ الْعِزَّ، وَلَكِنْ مَاذَا عَمِلَتْ فِيمَا لِي عَلَيْك؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ لَك عَلَيَّ؟ قَالَ: هَلْ وَالَيْت فِي وَلِيًّا أَوْ عَادَيْت فِي عَدُوًّا» ؟

[فَصَلِّ إخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى]

فَصْلٌ

[إخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى] . قَوْلُهُ: " فَمَنْ خَلَصَتْ نِيَّتُهُ فِي الْحَقِّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ شَانَهُ اللَّهُ " هَذَا شَقِيقُ كَلَامِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ مِشْكَاةِ الْمُحَدِّثِ الْمُلْهَمِ، وَهَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ مِنْ كُنُوزِ الْعِلْمِ، وَمِنْ أَحْسَنِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا نَفْعُ غَيْرِهِ، وَانْتَفَعَ غَايَةَ الِانْتِفَاعِ: فَأَمَّا الْكَلِمَةُ الْأُولَى فَهِيَ مَنْبَعُ الْخَيْرِ وَأَصْلِهِ، وَالثَّانِيَةُ أَصْلُ الشَّرِّ وَفَصْلُهُ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا خَلَصَتْ نِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَ قَصْدُهُ وَهَمُّهُ وَعَمَلُهُ لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ كَانَ اللَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>