[رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ]
الْكَلَامُ عَنْ وَضْعِ الْجَوَائِحِ]
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: رَدُّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ، بِأَنَّهَا خِلَافُ الْأُصُولِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ: «لَوْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ؟» وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ، وَأَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» فَقَالُوا: هَذِهِ خِلَافُ الْأُصُولِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ الثَّمَرَةَ وَمَلَكَ التَّصَرُّفَ فِيهَا، وَثَمَّ نُقِلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ، وَلَوْ رَبِحَ فِيهَا كَانَ الرِّبْحُ لَهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ؟ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إلَّا ذَلِكَ» وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ «أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: ابْتَاعَ رَجُلٌ ثَمَرَ حَائِطٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَعَالَجَهُ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ النُّقْصَانُ، فَسَأَلَ رَبَّ الْحَائِطِ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ، فَحَلَفَ لَا يَفْعَلُ، فَذَهَبَتْ أُمُّ الْمُشْتَرِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَأَلَّى أَنْ لَا يَفْعَلَ خَيْرًا فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ لَهُ» .
وَالْجَوَابُ أَنَّ وَضْعَ الْجَوَائِحِ لَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ نُبَيِّنُ هَذَا بِمَقَامَيْنِ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَحَدِيثُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ لَا يُخَالِفُ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إجْمَاعًا، وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ؛ فَيَجِبُ قَبُولُهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْقِيَاسِ فَيَكْفِي فِي فَسَادِهِ شَهَادَةُ النَّصِّ لَهُ بِالْإِهْدَارِ، كَيْفَ وَهُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ؟
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْمَقَامِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ وَضْعَ الْجَوَائِحِ كَمَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فَهُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرِي لَمْ يَتَسَلَّمْ الثَّمَرَةَ وَلَمْ يَقْبِضْهَا الْقَبْضَ التَّامَّ الَّذِي يُوجِبُ نَقْلَ الضَّمَانِ إلَيْهِ؛ فَإِنَّ قَبْضَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَقَبْضُ الثِّمَارِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ كَمَالِ إدْرَاكِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا فَهُوَ كَقَبْضِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ، وَتَسْلِيمُ الشَّجَرَةِ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ مِنْ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ، وَعُلَقُ الْبَائِعِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْ الْمَبِيعِ، فَإِنَّ لَهُ سَقْيَ الْأَصْلِ وَتَعَاهُدَهُ، كَمَا لَمْ تَنْقَطِعْ عُلَقُ الْمُؤَجِّرِ عَنْ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَتَسَلَّمْ التَّسْلِيمَ التَّامَّ كَمَا لَمْ يَتَسَلَّمْ الْمُسْتَأْجِرُ التَّسْلِيمَ التَّامَّ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ غَالِبٌ اجْتَاحَ الثَّمَرَةَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يَحِلَّ لِلْبَائِعِ إلْزَامُهُ بِثَمَنِ مَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهَا قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِهَا الْقَبْضَ الْمُعْتَادَ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ؟ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» فَذَكَرَ الْحُكْمَ وَهُوَ قَوْلُهُ: «فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا» وَعِلَّةُ الْحُكْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «أَرَأَيْت إنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute