ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُمْ الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَبِيُّهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَطَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَخِيَارَهُمْ، وَكِتَابُهُمْ كَذَلِكَ، وَدِينُهُمْ كَذَلِكَ، وَقِبْلَتُهُمْ الَّتِي يَسْتَقْبِلُونَهَا كَذَلِكَ، فَظَهَرَتْ الْمُنَاسَبَةُ شَرْعًا وَقَدَرًا فِي أَحْكَامِهِ تَعَالَى الْأَمْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الْبَاهِرَةُ، وَتَجَلَّتْ لِلْعُقُولِ الزَّكِيَّةِ الْمُسْتَنِيرَةِ بِنُورِ رَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُفْتِيَ جَدِيرٌ أَنْ يَذْكُرَ بَيْنَ يَدَيْ الْحُكْمِ الْغَرِيبِ الَّذِي لَمْ يُؤَلَّفْ مُقَدِّمَاتٍ تُؤْنِسُ بِهِ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ تَوْطِئَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[حَلِف المفتى عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ]
[يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ] الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ:
يَجُوزُ لِلْمُفْتِي وَالْمُنَاظِرِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلِفُهُ مُوجِبًا لِثُبُوتِهِ عِنْدَ السَّائِلِ وَالْمُنَازِعِ؛ لِيَشْعُرَ السَّائِلُ وَالْمُنَازِعُ لَهُ أَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ مِمَّا قَالَ لَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ شَاكٍّ فِيهِ، فَقَدْ تَنَاظَرَ رَجُلَانِ فِي مَسْأَلَةٍ؛ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، فَقَالَ لَهُ مُنَازِعُهُ: لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِحَلِفِك، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أَحْلِفْ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ عِنْدَك، وَلَكِنْ؛ لِأُعْلِمَك أَنِّي عَلَى يَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ مِنْ قَوْلِي، وَأَنَّ شُبْهَتَك لَا تُغَيِّرُ عِنْدِي فِي وَجْهِ يَقِينِي مَا أَنَا جَازِمٌ بِهِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، أَحَدُهَا: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: ٥٣] وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: ٣] وَالثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: ٧] .
وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَحْلِفُونَ عَلَى الْفَتَاوَى وَالرِّوَايَةِ، «فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ: إنَّك امْرُؤٌ تَائِهٌ، فَانْظُرْ مَا تُفْتِي بِهِ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ، فَوَاَللَّهِ وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَقَدْ نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
وَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثًا، ثُمَّ حَرَّمَهَا ثَلَاثًا، فَأَنَا أُقْسِمُ بِاَللَّهِ قَسَمًا لَا أَجِدُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُتَمَتِّعًا إلَّا رَجَمْتُهُ، إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَلَّهَا بَعْدَ أَنْ حَرَّمَهَا.
وَقَدْ حَلَفَ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَجْوِبَتِهِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الْمُتْعَةِ كَانَ يَكُونُ فِيهَا طَلَاقٌ أَوْ مِيرَاثٌ أَوْ نَفَقَةٌ أَوْ شَهَادَةٌ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ وَاَللَّهِ عِنْدِي زِنْدِيقٌ