الْآخَرِ؛ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا، وَهَذَا كَمَا لَوْ تَعَارَضَ دَلِيلُ الْفِرَاشِ وَدَلِيلُ الشَّبَهِ، فَإِنَّا نُعْمِلُ دَلِيلَ الْفِرَاشِ وَلَا نَلْتَفِتُ إلَى الشَّبَهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يُبْطِلُ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ وَالْقَرَائِنَ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا؟ وَهَلْ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الْحُكْمِ بِقَرِينَةٍ قَدْ عَارَضَهَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ الْقَرَائِنِ؟ وَسَيَأْتِي دَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقَرَائِنِ وَاعْتِبَارِهَا فِي الْأَحْكَامِ
وَأَمَّا إنْفَاذُهُ لِلْحُكْمِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فَلَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ شَرْعًا غَيْرُ هَذَا، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ الْمُتَدَاعِينَ، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحِقًّا وَالْآخَرُ مُبْطِلًا، وَيَنْفُذُ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا تَارَةً بِإِثْبَاتِ حَقِّ الْمُحِقِّ وَإِبْطَالِ بَاطِلِ الْمُبْطِلِ، وَتَارَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُحِقِّ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ رُكَانَةَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَأَحْلَفَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ وَاحِدَةً فَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِنِيَّاتِ أَصْحَابِهَا وَمَقَاصِدِهِمْ وَإِنْ خَالَفَتْ ظَوَاهِرَ أَلْفَاظِهِمْ؛ فَإِنَّ لَفْظَ أَلْبَتَّةَ يَقْتَضِي أَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَانْقَطَعَ التَّوَاصُلُ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ، بَلْ بَانَتْ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَلْبَتَّةَ لُغَةً وَعُرْفًا، وَمَعَ هَذَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ مَعَ مُخَالَفَةِ الظَّوَاهِرِ اعْتِمَادًا عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ، فَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ لَمَا نَفَعَهُ قَصْدُهُ الَّذِي يُخَالِفُ ظَاهِرَ لَفْظِهِ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً بَيِّنَةً؛ فَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَقَدْ قُبِلَ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَدِينُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِمَا أَظْهَرَ مِنْ لَفْظِهِ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِأَنَّ نِيَّتَهُ وَقَصْدَهُ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبْطَلَ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا اسْتِعْمَالَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا يُوجَدُ أَقْوَى مِنْهَا " يَعْنِي دَلَالَةَ الشَّبَهِ فَإِنَّمَا أَبْطَلَهَا بِدَلَالَةٍ أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ اللِّعَانُ، كَمَا أَبْطَلَهَا مَعَ قِيَامِ دَلَالَةِ الْفِرَاشِ، وَاعْتَبَرَهَا حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهَا مِثْلُهَا وَلَا أَقْوَى مِنْهَا فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْقَافَةِ وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّبَهِ، فَأَيْنَ فِي هَذَا إلْغَاءُ الدَّلَالَاتِ وَالْقَرَائِنِ مُطْلَقًا؟
[فَصْلٌ أَحْكَامُ الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ]
[أَحْكَامُ الدُّنْيَا تَجْرِي عَلَى الْأَسْبَابِ]
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ بِحُكْمِ الْكُفْرِ مَعَ الدَّلَالَةِ الَّتِي لَا أَقْوَى مِنْهَا وَهِيَ خَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ
فَجَوَابُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُجْرِ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى عِلْمِهِ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا أَجْرَاهَا عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا أَدِلَّةً عَلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيهَا مُظْهِرُونَ لِخِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ، وَإِذَا أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِهِ الَّذِي شَرَعَهُ وَرَتَّبَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute