للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهِ، وَيُمْضِيهِ فِي صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَحَجِّهِ وَجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ، فَإِذَا اجْتَهَدَ وَنَظَرَ وَقَاسَ عَلَى مَا أَشْبَهَ وَلَمْ يَأْلُ وَسِعَهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ، وَإِنْ أَخْطَأَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهِ.

[فَصْلٌ الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]

فَصْلٌ وَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ، عَنْ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ، وَهَذَا إمَّا يَتَبَيَّنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْيِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَالرَّأْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ:

[مَعْنَى الرَّأْيِ]

الرَّأْيُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ " رَأَى الشَّيْءَ يَرَاهُ رَأْيًا " ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَرْئِيِّ نَفْسِهِ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْمَفْعُولِ، كَالْهَوَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ هَوًى، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُهْوَى؛ فَيُقَالُ: هَذَا هَوَى فُلَانٌ، وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَصَادِرِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ مَحَالِّهَا فَتَقُولُ: رَأَى كَذَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَا، وَرَآهُ فِي الْيَقِظَةِ رُؤْيَةً، وَرَأَى كَذَا - لِمَا يُعْلَمُ بِالْقَلْبِ وَلَا يُرَى بِالْعَيْنِ - رَأْيًا، وَلَكِنَّهُمْ خَصُّوهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ؛ فَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى بِقَلْبِهِ أَمْرًا غَائِبًا عَنْهُ مِمَّا يَحُسُّ بِهِ أَنَّهُ رَأْيُهُ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُقُولُ وَلَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ إنَّهُ رَأْيٌ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ كَدَقَائِقِ الْحِسَابِ وَنَحْوِهَا.

[الرَّأْيُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ]

وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالرَّأْيُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رَأْيٌ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ، وَرَأْيٌ هُوَ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ قَدْ أَشَارَ إلَيْهَا السَّلَفُ، فَاسْتَعْمَلُوا الرَّأْيَ الصَّحِيحَ، وَعَمِلُوا بِهِ وَأَفْتَوْا بِهِ، وَسَوَّغُوا الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمُّوا الْبَاطِلَ، وَمَنَعُوا مِنْ الْعَمَلِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ، وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَوَّغُوا الْعَمَلَ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ بِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَمْ يُلْزِمُوا أَحَدًا الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مُخَالَفَتَهُ، وَلَا جَعَلُوا مُخَالِفَهُ مُخَالِفًا لِلدِّينِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُمْ خَيَّرُوا بَيْنَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُبِيحَ لِلْمُضْطَرِّ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سَأَلَتْ الشَّافِعِيَّ عَنْ الْقِيَاسِ، فَقَالَ لِي: عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذَا النَّوْعِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ: لَمْ يُفَرِّطُوا فِيهِ وَيُفَرِّعُوهُ وَيُوَلِّدُوهُ وَيُوَسِّعُوهُ كَمَا صَنَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِحَيْثُ اعْتَاضُوا بِهِ عَنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، وَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهَا، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَضْبِطُ قَوَاعِدَ الْإِفْتَاءِ لِصُعُوبَةِ النَّقْلِ عَلَيْهِ وَتَعَسُّرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>