لَمْ يُطْلِقْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِلْأَعْيُنِ النَّظَرَ إلَى الْإِمَاءِ الْبَارِعَاتِ الْجَمَالِ، وَإِذَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ بِالنَّظَرِ إلَى الْأَمَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنَّمَا نَشَأَتْ الشُّبْهَةُ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ لِلْحَرَائِرِ أَنْ يَسْتُرْنَ وُجُوهَهُنَّ عَنْ الْأَجَانِبِ، وَأَمَّا الْإِمَاءُ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا فِي إمَاءِ الِاسْتِخْدَامِ وَالِابْتِذَالِ، وَأَمَّا إمَاءُ التَّسَرِّي اللَّاتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِصَوْنِهِنَّ وَحَجْبِهِنَّ فَأَيْنَ أَبَاحَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَهُنَّ أَنْ يَكْشِفْنَ وُجُوهَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ وَأَذِنَ لِلرِّجَالِ فِي التَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِنَّ؟ فَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَأَكَّدَ هَذَا الْغَلَطَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ، سَمِعَ قَوْلَهُمْ: إنَّ الْحُرَّةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَعَوْرَةُ الْأَمَةِ مَا لَا يَظْهَرُ غَالِبًا كَالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالسَّاقِ؛ فَظَنَّ أَنَّ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا حُكْمُهُ حُكْمُ وَجْهِ الرَّجُلِ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ لَا فِي النَّظَرِ، فَإِنَّ الْعَوْرَةَ عَوْرَتَانِ: عَوْرَةٌ فِي النَّظَرِ وَعَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فَالْحُرَّةُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّارِقِ وَالْمُنْتَهِبِ]
وَأَمَّا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَتَرْكُ قَطْعِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ وَالْغَاصِبِ فَمِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ السَّارِقَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَنْقُبُ الدُّورَ وَيَهْتِكُ الْحِرْزَ وَيَكْسِرُ الْقُفْلَ، وَلَا يُمْكِنُ صَاحِبَ الْمَتَاعِ الِاحْتِرَازُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَشْرَعْ قَطْعَهُ لَسَرَقَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَعَظُمَ الضَّرَرُ، وَاشْتَدَّتْ الْمِحْنَةُ بِالسُّرَّاقِ، بِخِلَافِ الْمُنْتَهِبِ وَالْمُخْتَلِسِ؛ فَإِنَّ الْمُنْتَهِبَ هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ جَهْرَةً بِمَرْأَى مِنْ النَّاسِ، فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، وَيُخَلِّصُوا حَقَّ الْمَظْلُومِ، أَوْ يَشْهَدُوا لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِسُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ مَالِكِهِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ نَوْعِ تَفْرِيطٍ يُمَكِّنُ بِهِ الْمُخْتَلِسَ مِنْ اخْتِلَاسِهِ، وَإِلَّا فَمَعَ كَمَالِ التَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ لَا يُمْكِنُهُ الِاخْتِلَاسُ، فَلَيْسَ كَالسَّارِقِ، بَلْ هُوَ بِالْخَائِنِ أَشْبَهُ؛ وَأَيْضًا فَالْمُخْتَلِسُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِرْزِ مِثْلِهِ غَالِبًا، فَإِنَّهُ الَّذِي يُغَافِلُكَ وَيَخْتَلِسُ مَتَاعَكَ فِي حَالِ تَخَلِّيكَ عَنْهُ وَغَفْلَتِكَ عَنْ حِفْظِهِ، وَهَذَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ غَالِبًا، فَهُوَ كَالْمُنْتَهِبِ؛ وَأَمَّا الْغَاصِبُ فَالْأَمْر فِيهِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَطْعِ مِنْ الْمُنْتَهِبِ، وَلَكِنْ يَسُوغُ كَفُّ عُدْوَانِ هَؤُلَاءِ بِالضَّرْبِ وَالنَّكَالِ وَالسِّجْنِ الطَّوِيلِ وَالْعُقُوبَةِ بِأَخْذِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِقَطْعِ جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ خَائِنٌ، وَالْمُعِيرُ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِ مَالِهِ.
وَالِاحْتِرَازُ مِنْهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ؛ فَبَطَلَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفَرْقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute