عَمَلٍ، كَمَا رَفَعَهَا عَمَّنْ تَلَفَّظَ بِاللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمَعْنَاهُ وَلَا إرَادَةٍ، وَلِهَذَا لَا يُكَفَّرُ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ لَفْظُ الْكُفْرِ سَبْقًا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِفَرَحٍ أَوْ دَهْشٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا فِي حَدِيث الْفَرَحِ الْإِلَهِيِّ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ، وَضَرَبَ مَثَلَ ذَلِكَ بِمَنْ فَقَدَ رَاحِلَتَهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ، فَأَيِسَ مِنْهَا ثُمَّ وَجَدَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّك: " أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ " وَلَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: ١١] قَالَ السَّلَفُ: هُوَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَأَهْلِهِ فِي حَالِ الْغَضَبِ، وَلَوْ اسْتَجَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَأَهْلَكَهُ وَأَهْلَكَ مَنْ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الدَّاعِيَ لَمْ يَقْصِدْهُ.
[فَصْلٌ الطَّلَاقُ حَالَ الْغَضَبِ]
[حُكْمُ الطَّلَاقِ حَالَ الْغَضَبِ]
وَمِنْ هَذَا رَفْعُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمَ الطَّلَاقِ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي إغْلَاقٍ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة حَنْبَلٍ: هُوَ الْغَضَبُ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَدَّمُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ، وَهِيَ عِنْدَهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ أَيْضًا، فَأَدْخَلَ يَمِينَ الْغَضْبَانِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ وَفِي يَمِينِ الْإِغْلَاقِ، وَحَكَاهُ شَارِحُ أَحْكَامِ عَبْدِ الْحَقِّ عَنْهُ، وَهُوَ ابْنُ بَزِيزَةَ الْأَنْدَلُسِيُّ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ إنَّ الْأَيْمَانَ الْمُنْعَقِدَةَ كُلَّهَا فِي حَالِ الْغَضَبِ لَا تَلْزَمُ، وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ لِينٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: «لَا يَمِينَ فِي غَضَبٍ وَلَا عَتَاقٍ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ فَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ: «لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ» بِالْغَضَبِ، وَفَسَّرَهُ بِهِ مَسْرُوقٌ؛ فَهَذَا مَسْرُوقٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْقَاضِي إسْمَاعِيلُ، كُلُّهُمْ فَسَّرُوا الْإِغْلَاقَ بِالْغَضَبِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الْغَضْبَانَ قَدْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُ الْقَصْدِ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ، وَهُوَ كَالْمُكْرَهِ، بَلْ الْغَضْبَانُ أَوْلَى بِالْإِغْلَاقِ مِنْ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ قَصَدَ رَفْعَ الشَّرِّ الْكَثِيرِ بِالشَّرِّ الْقَلِيلِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ، فَهُوَ قَاصِدٌ حَقِيقَةً، وَمِنْ هُنَا أَوْقَع عَلَيْهِ الطَّلَاقَ مَنْ أَوْقَعَهُ، وَأَمَّا الْغَضْبَانُ فَإِنَّ انْغِلَاقَ بَابِ الْقَصْدِ وَالْعِلْمِ عَنْهُ كَانْغِلَاقِهِ عَنْ السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنَّ الْغَضَبَ غُولُ الْعَقْلِ يَغْتَالُهُ كَمَا يَغْتَالُهُ الْخَمْرُ، بَلْ أَشَدُّ، وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ، وَلَا يَشُكُّ فَقِيهُ النَّفْسِ فِي أَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ حَبْرُ الْأُمَّةِ الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْفِقْهِ فِي الدِّينِ: إنَّمَا الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، أَيْ عَنْ غَرَضٍ مِنْ الْمُطَلِّقِ فِي وُقُوعِهِ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِجَابَةِ اللَّهِ دُعَاءَ رَسُولِهِ لَهُ، إذًا الْأَلْفَاظُ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مُوجِبَاتُهَا لِقَصْدِ اللَّافِظِ بِهَا، وَلِهَذَا لَمْ يُؤَاخِذْنَا اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِنَا، وَمِنْ اللَّغْوِ مَا قَالَتْهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ أَنَّهُ قَوْلُ الْحَالِفِ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، فِي عَرَضِ كَلَامِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute