للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصَلِّ الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ]

فَصْلٌ:

[الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَحَرَّمَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، ثُمَّ سَلَّطَهُ عَلَى أَخْذِ عَقَارِهِ وَأَرْضِهِ بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ شَرَعَ الشُّفْعَةَ فِيمَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ فِيهِ بِالْقِسْمَةِ دُونَ مَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ كَالْجَوْهَرَةِ وَالْحَيَوَانِ " فَهَذَا السُّؤَالُ قَدْ أَوْرَدَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى أَصْلِ الشُّفْعَةِ وَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِهَا مُنَافٍ لِتَحْرِيمِ أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ خَصَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ دُونَ بَعْضٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلشُّفْعَةِ، وَهُوَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ.

وَنَحْنُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ نُجِيبُ عَنْ الْأَمْرَيْنِ؛ فَنَقُولُ: وُرُودُ الشَّرْعِ بِالشُّفْعَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْحِكْمَةِ.

مِنْ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدْلِهَا وَقِيَامِهَا بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وُرُودُهَا بِالشُّفْعَةِ، وَلَا يَلِيقُ بِهَا غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ حِكْمَةَ الشَّارِعِ اقْتَضَتْ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُكَلَّفِينَ مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ إلَّا بِضَرَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ بَقَّاهُ عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ أَمْكَنَ رَفْعُهُ بِالْتِزَامِ ضَرَرٍ دُونَهُ رَفَعَهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الشَّرِكَةُ مَنْشَأَ الضَّرَرِ فِي الْغَالِبِ فَإِنَّ الْخُلَطَاءَ يَكْثُرُ فِيهِمْ بَغْيُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ: بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ كُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ، وَبِالشُّفْعَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْجُمْلَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ؛ فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ نَصِيبِهِ وَأَخَذَ عِوَضَهُ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ يَصِلُ إلَى غَرَضِهِ مِنْ الْعِوَضِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ؛ فَكَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ بِدَفْعِ الْعِوَضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، وَيَزُولُ عَنْهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ، وَلَا يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى حَقِّهِ مِنْ الثَّمَنِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَدْلِ وَأَحْسَنِ الْأَحْكَامِ الْمُطَابِقَةِ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ التَّحَيُّلَ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ مُنَاقِضٌ لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ الشَّارِعُ وَمُضَادٌّ لَهُ.

ثُمَّ اخْتَلَفَتْ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ فِي الضَّرَرِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعَهُ بِالشُّفْعَةِ.

فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ إذَا طَالَبَ شَرِيكَهُ بِالْقِسْمَةِ كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَالْكُلْفَةِ وَالْغَرَامَةِ وَالضِّيقِ فِي مَرَافِقِ الْمَنْزِلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُبَّمَا ارْتَفَقَ بِالدَّارِ وَالْأَرْضِ كُلِّهَا وَبِأَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهَا، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ضَاقَتْ بِهِ الدَّارُ وَقَصُرَ عَلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، فَمَكَّنَهُ الشَّارِعُ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مِنْ رَفْعِ هَذِهِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ: بِأَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>