للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِعَدَالَةٍ وَلَا فِسْقٍ، وَشَهَادَةِ وُجُوهِ الْأَجْرِ وَمَعَاقِدِ الْقِمْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ مَا بَيَّنَ الْحَقَّ فَهُوَ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يُعَطِّلْ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ حَقًّا بَعْدَمَا تَبَيَّنَّ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ أَصْلًا، بَلْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ سِوَاهُ أَنَّهُ مَتَى ظَهَرَ الْحَقُّ وَوَضَحَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ وَنَصْرُهُ، وَحَرُمَ تَعْطِيلُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ، وَيَكْفِي الْمُسْتَبْصِرَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَإِذَا فُهِمَ هَذَا فِي جَانِبِ اللَّفْظِ فُهِمَ نَظِيرُهُ فِي جَانِبِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ.

[الْقَيَّاسُونَ وَالظَّاهِرِيَّةُ مُفْرِطُونَ]

وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ حَمَّلُوا مَعَانِيَ النُّصُوصِ فَوْقَ مَا حَمَّلَهَا الشَّارِعُ، وَأَصْحَابُ الْأَلْفَاظِ وَالظَّوَاهِرِ قَصَرُوا بِمَعَانِيهَا عَنْ مُرَادِهِ، فَأُولَئِكَ قَالُوا: إذَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ دَمٍ فِي الْبَحْرِ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَنَجَّسُوا بِهَا الْمَاءَ الْكَثِيرَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ بِتِلْكَ الْقَطْرَةِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: إذَا بَالَ جَرَّةً مِنْ بَوْلٍ وَصَبَّهَا فِي الْمَاءِ لَمْ تُنَجِّسْهُ، وَإِذَا بَالَ فِي الْمَاءِ نَفْسِهِ وَلَوْ أَدْنَى شَيْءٍ نَجَّسَهُ، وَنَجَّسَ أَصْحَابَ الرَّأْيِ وَالْمَقَايِيسِ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ وَلَوْ كَانَتْ أَلْفَ أَلْفِ قِنْطَارٍ مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ بِمِثْلِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنْ الْبَوْلِ وَالدَّمِ، وَالشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ مَنْ يُنَجِّسُ شَعْرَهُمَا. وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ وَالْأَلْفَاظِ عِنْدَهُمْ لَوْ وَقَعَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ بِكَمَالِهِ أَوْ أَيُّ مَيْتَةٍ كَانَتْ فِي أَيْ ذَائِبٍ كَانَ مِنْ زَيْتٍ أَوْ شَيْرَجٍ أَوْ خَلٍّ أَوْ دِبْسٍ أَوْ وَدَكٍ غَيْرِ السَّمْنِ أُلْقِيَتْ الْمَيْتَةُ فَقَطْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَائِعُ حَلَالًا طَاهِرًا كُلَّهُ، فَإِنْ وَقَعَ مَا عَدَا الْفَأْرَةَ فِي السَّمْنِ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ أَيْ نَجَاسَةٍ كَانَتْ فَهُوَ طَاهِرٌ حَلَالٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ» يَعْنِي فِي الْإِحْرَامِ، فَسَوَّى بَيْنَ يَدَيْهَا وَوَجْهِهَا فِي النَّهْيِ عَمَّا صُنِعَ عَلَى قَدْرِ الْعُضْوِ، وَلَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا، وَلَا أَمَرَهَا بِكَشْفِهِ أَلْبَتَّةَ، وَنِسَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ كُنَّ يَسْدُلْنَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ إذَا حَاذَاهُنَّ الرُّكْبَانُ، فَإِذَا جَاوَزُوهُنَّ كَشَفْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: مَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ؟ فَقَالَتْ: لَا تَنْتَقِبُ، وَلَا تَتَلَثَّمُ، وَتَسْدُلُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا، فَجَاوَزَتْ طَائِفَةٌ ذَلِكَ، وَمَنَعَتْهَا مِنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا جُمْلَةً، قَالُوا: وَإِذَا سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا فَلَا تَدَعْ الثَّوْبَ يَمَسُّ وَجْهَهَا، فَإِنْ مَسَّهُ افْتَدَتْ وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا أَلْبَتَّةَ، وَقِيَاسُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّهَا إذَا غَطَّتْ يَدَهَا افْتَدَتْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي النَّهْيِ وَجَعَلَهُمَا كَبَدَنِ الْمُحْرِمِ، فَنَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالنِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ، هَذَا لِلْبَدَنِ وَهَذَا لِلْوَجْهِ وَهَذَا لِلْيَدَيْنِ، وَلَا يَحْرُمُ سَتْرُ الْبَدَنِ، فَكَيْفَ يَحْرُمُ سَتْرُ الْوَجْهِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ لَهَا أَنْ تُدْنِيَ عَلَيْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا لِئَلَّا تُعْرَفَ وَيُفْتَتَنَ بِصُورَتِهَا؟ وَلَوْلَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْمُحْرِمِ وَلَا يُخَمَّرُ رَأْسُهُ» ، لَجَازَ تَغْطِيَتُهُ بِغَيْرِ الْعِمَامَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>