قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ وَارِدٌ أَيْضًا، وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ تَكُونُ الصُّورَةُ الْمُحَرَّمَةُ بِالْقِيَاسِ مُسَاوِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِلْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَالثَّلَاثَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي فُرُوعِ الْأَجْنَاسِ مَعَ أُصُولِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْرَ الْأَصْنَافِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَلَا يُسَاوِيهَا فِي إلْحَاقِهَا بِهَا، وَأَمَّا الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ فَفَرْعُهَا إنْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ قُوتًا لَمْ يَكُنْ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَتْ قُوتًا كَانَ جِنْسًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَحُرِّمَ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ مُتَفَاضِلًا كَالدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ بِالْخُبْزِ، وَلَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهُ بِجِنْسٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ جِنْسُهُمَا وَاحِدًا؛ فَلَا يَحْرُمُ السِّمْسِمُ بِالشَّيْرَجِ وَلَا الْهَرِيسَةُ بِالْخُبْزِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الصِّنَاعَةَ لَهَا قِيمَةٌ؛ فَلَا تَضِيعُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهَا بِأُصُولِهَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ كَمَا أَنَّهُ لَا عِبَادَةَ إلَّا مَا شَرَعَهَا اللَّهُ، وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ كَتَحْلِيلِ الْحَرَامِ.
[بَيْع اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ]
[الْخِلَافُ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ]
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْكُمْ بِبَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، فَإِنَّكُمْ إنْ مُنِعْتُمُوهُ نَقَضْتُمْ قَوْلَكُمْ، وَإِنْ جَوَّزْتُمُوهُ خَالَفْتُمْ النَّصَّ، وَإِذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الْخُبْزِ بِالْبُرِّ وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَكُلِّ رِبَوِيٍّ بِأَصْلِهِ.
قِيلَ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي مَقَامَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي صِحَّتِهِ، وَالثَّانِي فِي مَعْنَاهُ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ مَوْصُولًا، وَإِنَّمَا هُوَ صَحِيحٌ مُرْسَلًا؛ فَمَنْ لَمْ يَحْتَجَّ بِالْمُرْسَلِ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَأَى قَبُولَ الْمُرْسَلِ مُطْلَقًا أَوْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مُتَّصِلًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ، وَأَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالْمُرَادِ مِنْهُ؛ فَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مَعْنَى الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ حَيَوَانُهُ بِلَحْمِهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ وَالْغَرَرِ وَالْقِمَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ فِي الْحَيَوَانِ مِثْلُ اللَّحْمِ الَّذِي أَعْطَى أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ لَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا، فَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ كَبَيْعِ اللَّحْمِ الْمُغَيَّبِ فِي جِلْدِهِ بِلَحْمٍ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَلَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ حِينَئِذٍ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَلَا يَأْخُذُونَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَيُجَوِّزُونَ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا أَحْمَدُ فَيَمْنَعُ بَيْعَهُ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَا يَمْنَعُ بَيْعَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَإِنْ مَنَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَمْنَعُ بَيْعَهُ بِجِنْسِهِ وَبِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَزُورًا نُحِرَتْ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute