للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّنْعَةِ الَّتِي هِيَ أَثَرُ فِعْلِ الْآدَمِيِّ وَتُقَابَلُ بِالْأَثْمَانِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْأُجْرَةَ وَبَيْنَ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ لَا أَثَرَ لِلْعَبْدِ فِيهَا وَلَا هِيَ مِنْ صَنْعَتِهِ؛ فَالشَّارِعُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ مَنَعَ مِنْ مُقَابَلَةِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِزِيَادَةٍ؛ إذْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نَقْضِ مَا شَرَعَهُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ التَّفَاضُلِ؛ فَإِنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ ظَاهِرٌ، وَالْعَاقِلُ لَا يَبِيعُ جِنْسًا بِجِنْسِهِ إلَّا لِمَا هُوَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ، فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَلَوْ جَوَّزَ لَهُمْ مُقَابَلَةَ الصِّفَاتِ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ رِبَا الْفَضْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصِّيَاغَةِ الَّتِي جَوَّزَ لَهُمْ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا مَعَهُ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ إذَا جَازَتْ عَلَى هَذِهِ الصِّيَاغَةِ مُفْرَدَةً جَازَتْ عَلَيْهَا مَضْمُومَةً إلَى غَيْرِ أَصْلِهَا وَجَوْهَرِهَا؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقُولُ لِصَاحِبِ هَذِهِ الصِّيَاغَةِ: بِعْ هَذَا الْمَصُوغَ بِوَزْنِهِ وَاخْسَرْ صِيَاغَتَك، وَلَا يَقُولُ لَهُ: لَا تَعْمَلْ هَذِهِ الصِّيَاغَةَ وَاتْرُكْهَا، وَلَا يَقُولُ لَهُ: تَحَيَّلْ عَلَى بَيْعِ الْمَصُوغِ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ: لَا تَبِعْهُ إلَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ بِجِنْسِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذَا قَدْ سَلِمَ لَكُمْ فِي الْمَصُوغِ، فَكَيْفَ يَسْلَمُ لَكُمْ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ إذَا بِيعَتْ بِالسَّبَائِكِ مُفَاضَلًا وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مُقَابَلَةِ صِنَاعَةِ الضَّرْبِ؟ قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ وَارِدٌ، وَجَوَابُهُ أَنَّ السِّكَّةَ لَا تَتَقَوَّمُ فِيهِ الصِّنَاعَةُ

لِلْمَصْلَحَةِ

الْعَامَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا؛ فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَضْرِبُهَا لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ يَضْرِبُهَا بِأُجْرَةٍ فَإِنَّ الْقَصْدَ بِهَا أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلنَّاسِ لَا يَتَّجِرُونَ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسِّكَّةُ فِيهَا غَيْرُ مُقَابَلَةٍ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ قُوبِلَتْ بِالزِّيَادَةِ فَسَدَتْ الْمُعَامَلَةُ، وَانْتَقَضَتْ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِأَجْلِهَا، وَاِتَّخَذَهَا النَّاسُ سِلْعَةً، وَاحْتَاجَتْ إلَى التَّقْوِيمِ بِغَيْرِهَا، وَلِهَذَا قَامَ الدِّرْهَمُ مَقَامَ الدِّرْهَمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ الدَّرَاهِمَ رَدَّ نَظِيرَهَا، وَلَيْسَ الْمَصُوغُ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَأْخُذُ مِائَةً خِفَافًا وَيَرُدُّ خَمْسِينَ ثِقَالًا بِوَزْنِهَا وَلَا يَأْبَى ذَلِكَ الْآخِذُ وَلَا الْقَابِضُ وَلَا يَرَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ شَيْئًا؟ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَصُوغِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَاؤُهُ لَمْ يَضْرِبُوا دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهَا فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِضَرْبِ الْكُفَّارِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ تُجَوِّزُوا بَيْعَ فُرُوعِ الْأَجْنَاسِ بِأُصُولِهَا مُتَفَاضِلًا؛ فَجَوَّزُوا بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْخُبْزِ مُتَفَاضِلًا وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>