للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الِاخْتِلَافَ كَثِيرٌ فِي كُتُبِ الْمُقَلِّدِينَ وَأَقْوَالِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ، بَلْ هُوَ حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢] .

الْوَجْهُ الثَّلَاثُونَ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُقَلِّدَ زَيْدًا دُونَ عَمْرٍو، بَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ تَقْلِيدِ هَذَا إلَى تَقْلِيدِ الْآخَرِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ أَوَّلًا هُوَ الْحَقَّ لَا سِوَاهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ لَهُ الِانْتِقَالَ عَنْ الْحَقِّ إلَى خِلَافِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ.

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ الْحَقَّ وَحْدَهُ فَقَدْ جَوَّزْتُمْ الْإِقَامَةَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ.

وَإِنْ قُلْتُمْ: " الْقَوْلَانِ الْمُتَضَادَّانِ الْمُتَنَاقِضَانِ حَقٌّ " فَهُوَ أَشَدُّ إحَالَةً، وَلَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ.

الْوَجْهُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ يُقَالَ لِلْمُقَلِّدِ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَرَفْت أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ مَنْ قَلَّدْته دُونَ مَنْ لَا تُقَلِّدُهُ؟ فَإِنْ قَالَ " عَرَفْته بِالدَّلِيلِ " فَلَيْسَ بِمُقَلَّدٍ، وَإِنْ قَالَ: " عَرَفْته تَقْلِيدًا لَهُ؛ فَإِنَّهُ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ وَدَانَ بِهِ وَعِلْمُهُ وَدِينُهُ وَحُسْنُ ثَنَاءِ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَ الْحَقِّ " قِيلَ لَهُ: أَفَمَعْصُومٌ هُوَ عِنْدَك أَمْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ؟ فَإِنْ قَالَ بِعِصْمَتِهِ أَبْطَلَ، وَإِنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ قِيلَ لَهُ: فَمَا يُؤَمِّنُك أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ فِيمَا قَلَّدْته فِيهِ وَخَالَفَ فِيهِ غَيْرَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: وَإِنْ أَخْطَأَ فَهُوَ مَأْجُورٌ، قِيلَ: أَجَلْ هُوَ مَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مَأْجُورٍ لِأَنَّك لَمْ تَأْتِ بِمُوجِبِ الْأَجْرِ، بَلْ قَدْ فَرَّطْت فِي الِاتِّبَاعِ الْوَاجِبِ فَأَنْتَ إذًا مَأْزُورٌ.

فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ يَأْجُرُهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ وَيَمْدَحُهُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ؟ وَهَلْ يُعْقَلُ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: الْمُسْتَفْتِي إنْ هُوَ قَصَّرَ وَفَرَّطَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْحَقَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لَحِقَهُ الذَّمُّ وَالْوَعِيدُ، وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا، وَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِيمَا أُمِرَ بِهِ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مَأْجُورٌ أَيْضًا. وَأَمَّا الْمُتَعَصِّبُ الَّذِي جَعَلَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ عِيَارًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ يَزِنُهَا بِهِ فَمَا وَافَقَ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ مِنْهَا قَبِلَهُ وَمَا خَالَفَهُ رَدَّهُ، فَهَذَا إلَى الذَّمِّ وَالْعِقَابِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى الْأَجْرِ وَالصَّوَابِ؛ وَإِنْ قَالَ وَهُوَ الْوَاقِعُ: اتَّبَعَتْهُ وَقَلَّدَتْهُ وَلَا أَدْرِي أَعْلَى صَوَابٍ هُوَ أَمْ لَا، فَالْعُهْدَةُ عَلَى الْقَائِلِ، وَأَنَا حَاكٍ لِأَقْوَالِهِ، قِيلَ لَهُ: فَهَلْ تَتَخَلَّصُ بِهَذَا مِنْ اللَّهِ عِنْدَ السُّؤَالِ لَك عَمَّا حَكَمْت بِهِ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ وَأَفْتَيْتهمْ بِهِ، فَوَاَللَّهِ إنَّ لِلْحُكَّامِ وَالْمُفْتِينَ لَمَوْقِفًا لِلسُّؤَالِ لَا يَتَخَلَّصُ فِيهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَحَكَمَ بِهِ وَأَفْتَى بِهِ، وَأَمَّا مَنْ عَدَاهُمَا فَسَيَعْلَمُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَالِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ.

[عِلَّةُ إيثَارِ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ]

[مَا عِلَّةُ إيثَارِ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ؟] : الْوَجْهُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: أَنْ نَقُولَ: أَخَذْتُمْ بِقَوْلِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّ فُلَانًا قَالَهُ أَوْ لِأَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>