للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَفْهَمُهَا: " قُلْ لِي: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا "، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَوْضُوعَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، فَقَالَ لَهَا، لَمْ تَطْلُقُ قَطْعًا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ: " أَنَا عَبْدُكَ وَمَمْلُوكُكَ " عَلَى جِهَةِ الْخُضُوعِ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ النَّاسُ لَمْ يَسْتَبِحْ مِلْكَ رَقَبَتِهِ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَمْ يُرَاعِ الْمَقَاصِدَ وَالنِّيَّاتِ الْعُرْفَ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ بَيْعُ هَذَا الْقَائِلِ وَمِلْكُ رَقَبَتِهِ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ.

[لَا يُعِينُ الْمُفْتِي عَلَى التَّحَايُلِ وَلَا عَلَى الْمَكْرِ]

[لَا يُعِينُ الْمُفْتِي عَلَى التَّحَايُلِ وَلَا عَلَى الْمَكْرِ] وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ يَقَعُ فِيهِ الْمُفْتِي الْجَاهِلُ، فَيَغُرُّ النَّاسَ، وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُغَيِّرُ دِينَهُ، وَيُحَرِّمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَيُوجِبُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ: (يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا جَاءَتْهُ مَسْأَلَةٌ فِيهَا تَحَيُّلٌ عَلَى إسْقَاطِ وَاجِبٍ أَوْ تَحْلِيلُ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرٌ أَوْ خِدَاعٌ أَنْ يُعِينَ الْمُسْتَفْتِيَ فِيهَا) ، وَيُرْشِدَهُ إلَى مَطْلُوبِهِ، أَوْ يُفْتِيَهُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودِهِ، بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِمَكْرِ النَّاسِ وَخِدَاعِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ بِهِمْ، بَلْ يَكُونُ حَذِرًا فَطِنًا فَقِيهًا بِأَحْوَالِ النَّاسِ وَأُمُورِهِمْ، يُوَازِرُهُ فِقْهُهُ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ زَاغَ وَأَزَاغَ، وَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ ظَاهِرُهَا ظَاهِرٌ جَمِيلٌ، وَبَاطِنُهَا مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَظُلْمٌ؟ فَالْغِرُّ يَنْظُرُ إلَى ظَاهِرِهَا وَيَقْضِي بِجَوَازِهِ، وَذُو الْبَصِيرَةِ يَنْقُدُ مَقْصِدَهَا وَبَاطِنَهَا؛ فَالْأَوَّلُ يُرَوِّجُ عَلَيْهِ زَغْلُ الْمَسَائِلِ كَمَا يُرَوِّجُ عَلَى الْجَاهِلِ بِالنَّقْدِ زَغْلُ الدَّرَاهِمِ، وَالثَّانِي يُخْرِجُ زَيْفَهَا كَمَا يُخْرِجُ النَّاقِدُ زَيْفَ النُّقُودِ.

وَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ يُخْرِجُهُ الرَّجُلُ بِحُسْنِ لَفْظِهِ وَتَنْمِيقِهِ وَإِبْرَازِهِ فِي صُورَةِ حَقٍّ؟ وَكَمْ مِنْ حَقٍّ يُخْرِجُهُ بِتَهْجِينِهِ وَسُوءِ تَعْبِيرِهِ فِي صُورَةِ بَاطِلٍ؟ وَمَنْ لَهُ أَدْنَى فِطْنَةٍ وَخِبْرَةٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، بَلْ هَذَا أَغْلَبُ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلِكَثْرَتِهِ وَشُهْرَتِهِ يُسْتَغْنَى عَنْ الْأَمْثِلَةِ.

بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةَ وَالْبِدَعَ كُلَّهَا وَجَدَهَا قَدْ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُهَا فِي قَوَالِبَ مُسْتَحْسَنَةٍ وَكَسَوْهَا أَلْفَاظًا بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهَا، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

تَقُولُ هَذَا جَنَاءُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وَإِنْ تَشَأْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ

مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا ... وَالْحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ

وَرَأَى بَعْضُ الْمُلُوكِ كَأَنَّ أَسْنَانَهُ قَدْ سَقَطَتْ، فَعَبَّرَهَا لَهُ مُعَبِّرٌ بِمَوْتِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، فَأَقْصَاهُ وَطَرَدَهُ، وَاسْتَدْعَى آخَرَ فَقَالَ لَهُ: لَا عَلَيْكَ، تَكُونُ أَطْوَلَ أَهْلِكَ عُمْرًا، فَأَعْطَاهُ وَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ، فَاسْتَوْفَى الْمَعْنَى، وَغَيَّرَ لَهُ الْعِبَارَةَ، وَأَخْرَجَ الْمَعْنَى فِي قَالِبٍ حَسَنٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>