للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خَفِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ فِيهِ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ مِمَّنْ عَدَا الرَّسُولِ؛ فَكُلُّ أَحَدٍ سِوَاهُ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا جَاءَ بِهِ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ مَا لَا يُطِيقُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَمْرِهِ، فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَا اسْتَطَاعَهُ وَبَلَغَتْهُ قُوَاهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَعَذَرَهُ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ.

فَأَخْطَأَ أَوْ قَلَّدَ فِيهِ غَيْرَهُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَنْ يَخْتَارَ كُلٌّ مِنْهُمْ رَجُلًا يَنْصِبُهُ مِعْيَارًا عَلَى وَحْيِهِ، وَيُعْرِضُ عَنْ أَخْذِ الْأَحْكَامِ وَاقْتِبَاسِهَا مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ؛ فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَإِحْسَانَهُ، وَيُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ وَهَجْرِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا وَقَعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[الْفَرْق بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالْمَأْمُومِ]

[فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالْمَأْمُومِ]

الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ: قَوْلُكُمْ ": إنَّكُمْ فِي تَقْلِيدِكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالْمَتْبُوعِ مَعَ التَّابِعِ فَالرَّكْبُ خَلْفَ الدَّلِيلِ " جَوَابُهُ إنَّا وَاَللَّهِ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْإِمَامِ وَالدَّلِيلِ وَالْمَتْبُوعِ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْخَلَائِقِ أَنْ تَأْتَمَّ بِهِ وَتَتْبَعَهُ وَتَسِيرَ خَلْفَهُ، وَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِعِزَّتِهِ أَنَّ الْعِبَادَ لَوْ أَتَوْهُ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ أَوْ اسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ حَتَّى يَدْخُلُوا خَلْفَهُ؛ فَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ إمَامُ الْخَلْقِ وَدَلِيلُهُمْ وَقَائِدُهُمْ حَقًّا.

وَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ بَعْدَهُ إلَّا لِمَنْ دَعَا إلَيْهِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَقْتَدُوا بِهِ، وَيَأْتَمُّوا بِهِ، وَيَسِيرُوا خَلْفَهُ، وَأَنْ لَا يَنْصِبُوا لِنُفُوسِهِمْ مَتْبُوعًا وَلَا إمَامًا وَلَا دَلِيلًا غَيْرَهُ، بَلْ يَكُونُ الْعُلَمَاءُ مَعَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْمُصَلِّينَ، كُلُّ وَاحِدٍ يُصَلِّي طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، وَهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ مُتَعَاوِنُونَ مُتَسَاعِدُونَ بِمَنْزِلَةِ الْوَفْدِ مَعَ الدَّلِيلِ، كُلُّهُمْ يَحُجُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، لَا أَنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي لِأَجْلِ كَوْنِ الْإِمَامِ يُصَلِّي، بَلْ هُوَ يُصَلِّي صَلَّى إمَامُهُ أَوْ لَا.

بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى قَوْلِ مَتْبُوعِهِ لِأَنَّهُ قَالَهُ، لَا لِأَنَّ الرَّسُولَ قَالَهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَارَ مَعَ قَوْلِ الرَّسُولِ أَيْنَ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا.

فَاحْتِجَاجُهُمْ بِإِمَامِ الصَّلَاةِ وَدَلِيلِ الْحَاجِّ مِنْ أَظْهَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ.

يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ السَّبْعُونَ: أَنَّ الْمَأْمُومَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ وَإِمَامَهُ فِي وُجُوبِهَا سَوَاءٌ، وَأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ هُوَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ حَجَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَنَّهُ هُوَ وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا الْفَرْضِ سَوَاءٌ، فَهُوَ لَمْ يَحُجَّ تَقْلِيدًا لِلدَّلِيلِ، وَلَمْ يُصَلِّ تَقْلِيدًا لِلْإِمَامِ.

وَقَدْ اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلًا يَدُلُّهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ لَمَّا هَاجَرَ الْهِجْرَةَ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَصَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَأْمُومًا، وَالْعَالِمُ يُصَلِّي خَلْفَ مِثْلِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، بَلْ خَلْفَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ، وَلَيْسَ مِنْ تَقْلِيدِهِ فِي شَيْءٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>