للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتَقَابَضَا، وَجَوَّزَ دَفْعَهُ بِمِثْلِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَدْفَعُ رِبَوِيًّا وَيَأْخُذُ نَظِيرَهُ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْقَصْدُ؛ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْمُقْرِضِ إرْفَاقُ الْمُقْتَرِضِ وَنَفْعُهُ، وَلَيْسَ مَقْصُودُهُ الْمُعَاوَضَةَ وَالرِّبْحَ، وَلِهَذَا كَانَ الْقَرْضُ شَقِيقَ الْعَارِيَّةِ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنِيحَةَ الْوَرِقِ " فَكَأَنَّهُ أَعَارَهُ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ، لَكِنْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ فَاسْتَرْجَعَ الْمِثْلَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ رِبًا صَرِيحًا، وَلَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ وَهَبَهُ دِرْهَمًا آخَرَ جَازَ، وَالصُّورَةُ وَاحِدَةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْقَصْدُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُلْغِيَ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ وَلَا يَجْعَلُ لَهَا اعْتِبَارًا؟ .

[فَصْلٌ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الظَّوَاهِرِ]

فَصْلٌ

[اعْتِرَاضٌ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَجْرِي عَلَى الظَّوَاهِرِ]

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَطَلْتُمْ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُصُودِ فِي الْعُقُودِ، وَنَحْنُ نُحَاكِمُكُمْ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: ٣١] فَرَتَّبَ الْحَكِيمُ عَلَى ظَاهِرِ إيمَانِهِمْ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ إلَى الْعَالِمِ بِالسَّرَائِرِ تَعَالَى الْمُنْفَرِدِ بِعِلْمِ ذَاتِ الصُّدُورِ وَعِلْمِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: ٣١] وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» وَقَدْ قَالَ: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» فَاكْتَفَى مِنْهُمْ بِالظَّاهِرِ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِاَلَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ، قَبِلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ: قَبُولُ ظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: ٣٦] وَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا عِلْمًا بِالنِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِهَا، فَقَوْلُنَا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ طَاعَةَ نَبِيِّهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا، فَأَوْلَى أَلَّا يَتَعَاطَوْا حُكْمًا عَلَى غَيْبِ أَحَدٍ بِدَلَالَةٍ وَلَا ظَنٍّ؛ لِقُصُورِ عِلْمِهِمْ مِنْ عُلُومِ أَنْبِيَائِهِ الَّذِينَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْوُقُوفَ عَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُهُ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى ظَاهَرَ عَلَيْهِمْ الْحُجَجَ، فَمَا جَعَلَ إلَيْهِمْ الْحُكْمَ فِي الدُّنْيَا إلَّا بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَفَرَضَ عَلَى نَبِيِّهِ أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ حَتَّى يُسْلِمُوا فَتُحْقَنَ دِمَاؤُهُمْ إذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَأُعْلِمَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُمْ بِالْإِسْلَامِ إلَّا اللَّهُ؛ ثُمَّ أَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى قَوْمٍ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُسِرُّونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>