للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا تَأَمَّلَ الْعَاقِلُ مِقْدَارَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ فِي الزَّكَاةِ وَجَدَهُ مِمَّا لَا يَضُرُّ الْمُخْرِجَ فَقْدُهُ، وَيَنْفَعُ الْفَقِيرَ أَخْذُهُ، وَرَآهُ قَدْ رَاعَى فِي حَالِ صَاحِبِ الْمَالِ وَجَانِبِهِ حَقَّ الرِّعَايَةِ، وَنَفَعَ الْآخِذَ بِهِ، وَقَصَدَ إلَى كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ فَأَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي أَعْلَاهُ وَأَشْرَفِهِ؛ فَأَوْجَبَ زَكَاةَ الْعَيْنِ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ دُونَ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهَا، وَأَوْجَبَ زَكَاةَ السَّائِمَةِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ دُونَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ دُونَ مَا يَقِلُّ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّيُودِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَدُونَ الطَّيْرِ كُلِّهِ، وَأَوْجَبَ زَكَاةَ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ فِي أَشْرَفَهُ وَهُوَ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ دُونَ الْبُقُولِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْمَقَاثِي وَالْمَبَاطِخِ وَالْأَنْوَارِ.

وَغَيْرُ خَافٍ تَمَيُّزُ مَا أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ عَمَّا لَمْ يُوجِبْهَا فِي جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ وَنَفْعِهِ وَشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَثْرَةِ وُجُودِهِ، وَأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْأَمْوَالِ لِمَا عَدَاهُ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ، بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَ لَأَضَرَّ فَقْدُهُ بِالنَّاسِ، وَتَعَطَّلَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يُوجِبْ فِيهِ الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْفَضَلَاتِ وَالتَّتِمَّاتِ الَّتِي لَوْ فُقِدَتْ لَمْ يَعْظُمْ الضَّرَرُ بِفَقْدِهَا، وَكَذَلِكَ رَاعَى فِي الْمُسْتَحَقِّينَ لَهَا أَمْرَيْنِ مُهِمَّيْنِ:

أَحَدَهُمَا: حَاجَةُ الْأَخْذِ.

وَالثَّانِي: نَفْعُهُ؛ فَجَعَلَ الْمُسْتَحَقِّينَ لَهَا نَوْعَيْنِ: نَوْعًا يَأْخُذُ لِحَاجَتِهِ، وَنَوْعًا يَأْخُذُ لِنَفْعِهِ، وَحَرَّمَهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُمَا.

[فَصَلِّ حِكْمَةُ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ لِسَانِ الْقَاذِفِ]

ِ مَثَلًا]

وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الَّتِي بَاشَرَ بِهَا الْجِنَايَةَ، وَلَمْ يَقْطَعْ فَرْجَ الزَّانِي وَقَدْ بَاشَرَ بِهِ الْجِنَايَةَ، وَلَا لِسَانَ الْقَاذِفِ وَقَدْ بَاشَرَ بِهِ الْقَذْفَ " فَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ مُنَزَّلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ.

وَنَحْنُ نَذْكُرُ فَصْلًا نَافِعًا فِي الْحُدُودِ وَمَقَادِيرِهَا، وَكَمَالِ رُتَبِهَا عَلَى أَسْبَابِهَا، وَاقْتِضَاءِ كُلِّ جِنَايَةٍ لِمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ لِلْعُقُولِ اقْتِرَاحٌ، وَنُورِدُ أَسْئِلَةً لَمْ يُورِدْهَا هَذَا السَّائِلُ، وَنَنْفَصِلُ عَنْهَا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ أَحْسَنَ انْفِصَالٍ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ لَمَّا خَلَقَ الْعِبَادَ وَخَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ وَجَعَلَ مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِيَبْلُوَ عِبَادَهُ وَيَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا لَمْ يَكُنْ فِي حِكْمَتِهِ بُدٌّ مِنْ تَهْيِئَةِ أَسْبَابِ الِابْتِلَاءِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَخَارِجًا عَنْهَا، فَجَعَلَ فِي أَنْفُسِهِمْ الْعُقُولَ الصَّحِيحَةَ وَالْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْإِرَادَةَ وَالشَّهَوَاتِ وَالْقُوَى وَالطَّبَائِعَ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْمَيْلَ وَالنُّفُورَ وَالْأَخْلَاقَ

<<  <  ج: ص:  >  >>