إلَيْهِمْ فِي كَوْنِ هَذَا الْوَصْفِ عَيْبًا أَمْ لَا، وَكَوْنِ هَذَا الْبَيْعِ مُرْبِحًا أَمْ لَا، وَكَوْنِ هَذِهِ السِّلْعَةِ نَافِقَةً فِي وَقْتِ كَذَا وَبَلَدِ كَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْأُمُورِ الْعُرْفِيَّةِ، فَالْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ فِيهَا مِثْلُهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَإِنْ بُلِيتَ بِمَنْ يَقُولُ: هَكَذَا فِي الْكِتَابِ، وَهَكَذَا قَالُوا فَالْحِيلَةُ فِي الْجَوَازِ أَنْ تَسْتَأْجِرَ مِنْهُ الْأَرْضَ الْمَشْغُولَةَ بِذَلِكَ مُدَّةً يُعْلَمُ فَرَاغُهُ مِنْهَا، وَيُقِرُّ لَهُ إقْرَارًا مَشْهُودًا لَهُ بِهِ أَنَّ مَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ لَهُ لَا حَقَّ لِلْمُؤَجِّرِ فِيهِ، وَلَكِنَّ عَكْسَ هَذِهِ الْحِيلَةِ لَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ وَضْعِ الْجَائِحَةِ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، فَإِنَّهُ كَالثَّمَرَةِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ إنْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، وُضِعَتْ عَنْهُ الْجَائِحَةُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ: جَوَازُ بَيْعِهِ، وَوَضْعُ الْجَوَائِحِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ الْمُبَايَعَةُ يَوْمِيًّا وَالْقَبْضُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ]
[الْمُبَايَعَةُ يَوْمِيًّا وَالْقَبْضُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ]
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ: اخْتَلَفَتْ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَصُورَتُهَا: الْبَيْعُ مِمَّنْ يُعَامِلُهُ مِنْ خَبَّازٍ أَوْ لَحَّامٍ أَوْ سَمَّانٍ أَوْ غَيْرِهِمْ، يَأْخُذُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا ثُمَّ يُحَاسِبُهُ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ أَوْ السَّنَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعْطِيهِ ثَمَنَهُ؛ فَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَجَعَلُوا الْقَبْضَ بِهِ غَيْرَ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ قَبْضٌ فَاسِدٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمَقْبُوضِ بِالْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
هَذَا وَكُلُّهُمْ إلَّا مَنْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا، وَهُوَ يُفْتِي بِبُطْلَانِهِ، وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمُسَاوَمَتِهِ لَهُ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ يَأْخُذُهَا قَلَّ ثَمَنُهَا أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ شَرَطَ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَفْظًا؛ فَلَا بُدَّ مَعَ الْمُسَاوَمَةِ أَنْ يَقْرِنَ بِهَا الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ لَفْظًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي -: وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ - جَوَازُ الْبَيْعِ بِمَا يَنْقَطِعُ بِهِ السِّعْرُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: هُوَ أَطْيَبُ لِقَلْبِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُسَاوَمَةِ، يَقُولُ: لِي أُسْوَةٌ بِالنَّاسِ آخُذُ بِمَا يَأْخُذُ بِهِ غَيْرِي، قَالَ: وَاَلَّذِينَ يَمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُمْ تَرْكُهُ، بَلْ هُمْ وَاقِعُونَ فِيهِ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا إجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَا قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ مَا يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَكْثَرُهُمْ يُجَوِّزُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ وَالْغَسَّالِ، وَالْخَبَّازِ وَالْمَلَّاحِ، وَقَيِّمِ الْحَمَّامِ وَالْمُكَارِي، وَالْبَيْعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ كَبَيْعِ مَاءِ الْحَمَّامِ؛ فَغَايَةُ الْبَيْعِ بِالسِّعْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ؛ فَيَجُوزُ، كَمَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ، وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ النَّاسِ إلَّا بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute