فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ عِلَّةَ الْحُكْمِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: ٧] .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: ٣٨] وَقَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: ٩٥] .
[تَمْهِيد المفتى لِلْحُكْمِ الْمُسْتَغْرَبِ]
[مِنْ أَدَبِ الْمُفْتِي أَنْ يُمَهِّدَ لِلْحُكْمِ الْمُسْتَغْرَبِ] الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: (إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَغْرَبًا جِدًّا مِمَّا لَا تَأْلَفُهُ النُّفُوسُ وَإِنَّمَا أَلِفَتْ خِلَافَهُ فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُوَطِّئَ قَبْلَهُ مَا يَكُونُ مُؤْذِنًا بِهِ) كَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَالْمُقَدِّمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَأَمَّلْ ذِكْرَهُ سُبْحَانَهُ قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَإِخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْهُ بَعْدَ انْصِرَامِ عَصْرِ الشَّبِيبَةِ وَبُلُوغِهِ السِّنَّ الَّذِي لَا يُولَدُ [فِيهِ] لِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، فَذَكَرَ قِصَّتَهُ مُقَدَّمَةً بَيْنَ يَدَيْ قِصَّةِ الْمَسِيحِ وَوِلَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَبٍ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَمَّا آنَسَتْ بِوَلَدٍ مِنْ بَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرِينَ لَا يُولَدُ لَهُمَا عَادَةً سَهُلَ عَلَيْهَا التَّصْدِيقُ بِوِلَادَةِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قَبْلَ قِصَّةِ الْمَسِيحِ مُوَافَاةَ مَرْيَمَ رِزْقَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهِ وَغَيْرِ إبَّانِهِ.
وَهَذَا الَّذِي شَجَّعَ نَفْسَ زَكَرِيَّا وَحَرَّكَهَا لِطَلَبِ الْوَلَدِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ، وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ نَسْخِ الْقِبْلَةِ لَمَّا كَانَتْ شَدِيدَةً عَلَى النُّفُوسِ جِدًّا كَيْفَ وَطَّأَ سُبْحَانَهُ قَبْلَهَا عِدَّةَ مُوَطَّئَاتٍ: مِنْهَا: ذِكْرُ النَّسْخِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلِهِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ فَعُمُومُ قُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ صَالِحٌ لِهَذَا الْأَمْرِ الثَّانِي كَمَا كَانَ صَالِحًا لِلْأَوَّلِ.
وَمِنْهَا: تَحْذِيرُهُمْ الِاعْتِرَاضَ عَلَى رَسُولِهِ كَمَا اعْتَرَضَ مَنْ قَبْلَهُمْ عَلَى مُوسَى، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْقِيَادِ.
وَمِنْهَا: تَحْذِيرُهُمْ بِالْإِصْغَاءِ إلَى الْيَهُودِ، وَأَنْ لَا تَسْتَخِفَّهُمْ شُبَهُهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَوَدُّونَ أَنْ يَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ.
وَمِنْهَا: إخْبَارُهُ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَيْسَ بِالتَّهَوُّدِ وَلَا بِالتَّنَصُّرِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ وَالْقَصْدِ وَالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ لِلَّهِ مَعَ مُتَابَعَةِ أَمْرِهِ.
وَمِنْهَا: إخْبَارُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ سَعَتِهِ، وَأَنَّهُ حَيْثُ وَلَّى الْمُصَلِّي وَجْهَهُ فَثَمَّ وَجْهُهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، فَذَكَرَ الْإِحَاطَتَيْنِ الذَّاتِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةَ، فَلَا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُمْ فِي الْقِبْلَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُونُوا مُسْتَقْبِلِينَ وَجْهَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا فِي الثَّانِيَةِ، بَلْ حَيْثُمَا تَوَجَّهُوا فَثَمَّ وَجْهُهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَذَّرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ أَمَرَ أَنْ يَتْبَعَ هُوَ وَأُمَّتُهُ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ فَيَسْتَقْبِلُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَحْدَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ عَظَمَةَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَعَظَمَةَ بَانِيهِ وَمِلَّتِهِ، وَسَفَّهَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْهَا، وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا، فَنَوَّهَ بِالْبَيْتِ وَبَانِيهِ وَمِلَّتِهِ، وَكُلُّ هَذَا تَوْطِئَةٌ بَيْنَ يَدَيْ التَّحْوِيلِ، مَعَ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْجَلِيلَةِ وَالْمَطَالِبِ السَّنِيَّةِ.