للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَرْحَامَكُمْ» ؛ فَذَكَرَ لَهُمْ الْحُكْمَ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ.

وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ لِأَبِي النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَقَدْ خَصَّ بَعْضَ وَلَدِهِ بِغُلَامٍ نَحَلَهُ إيَّاهُ، فَقَالَ: أَيَسُرُّك أَنْ يَكُونُوا لَك فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» وَفِي لَفْظٍ «إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ» وَفِي لَفْظٍ «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» وَفِي لَفْظٍ «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» تَهْدِيدًا، لَا إذْنًا، فَإِنَّهُ لَا يَأْذَنُ فِي الْجَوْرِ قَطْعًا، وَفِي لَفْظٍ: رُدَّهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ نَبَّهَهُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ.

وَمِنْ هَذَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَقَدْ قَالَ: لَهُ إنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُك عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» فَنَبَّهَ عَلَى عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنْ التَّذْكِيَةِ بِهِمَا بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا عَظْمًا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى عَدَمِ التَّذْكِيَةِ بِالْعِظَامِ؛ إمَّا لِنَجَاسَةِ بَعْضِهَا؛ وَإِمَّا لِتَنْجِيسِهِ عَلَى مُؤْمِنِي الْجِنِّ، وَلِكَوْنِ الْآخَرِ مُدَى الْحَبَشَةِ، فَفِي التَّذْكِيَةِ بِهَا تَشَبُّهٌ بِالْكُفَّارِ.

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَمِنْ ذَلِكَ «قَوْلُهُ فِي الثَّمَرَةِ تُصِيبُهَا الْجَائِحَةُ: أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، فَبِمَ يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ .» وَهَذَا التَّعْلِيلُ بِعَيْنِهِ يَنْطَبِقُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَيُقَالُ لِلْمُؤَجِّرِ: أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الزَّرْعَ فَبِمَ تَأْكُلُ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ؟ ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي نَدِينُ اللَّهَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّارِعَ مَعَ كَوْنِ قَوْلِهِ حُجَّةً بِنَفْسِهِ يُرْشِدُ الْأُمَّةَ إلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَمَدَارِكِهَا وَحُكْمِهَا، فَوَرَثَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ كَذَلِكَ.

وَمِنْ ذَلِكَ «نَهْيُهُ عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ إنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ» وَمِنْ ذَلِكَ إفْتَاؤُهُ لِلْعَاضِّ يَدَ غَيْرِهِ بِإِهْدَارِ دِيَةِ ثَنِيَّتِهِ لَمَّا سَقَطَتْ بِانْتِزَاعِ الْمَعْضُوضِ يَدَهُ مِنْ فِيهِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ «أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيك تَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ» وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ التَّعْلِيلِ وَأَبْيَنِهِ؛ فَإِنَّ الْعَاضَّ لَمَّا صَالَ عَلَى الْمَعْضُوضِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ صِيَالَهُ عَنْهُ بِانْتِزَاعِ يَدِهِ مِنْ فَمِهِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ ثَنَايَاهُ كَانَ سُقُوطُهَا بِفِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ فَلَا يُقَابَلُ بِالدِّيَةِ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي السُّنَّةِ.

فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يُنَبِّهَ السَّائِلَ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ وَمَأْخَذِهِ إنْ عَرَفَ ذَلِكَ، وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ بِلَا عِلْمٍ.

وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْقُرْآنِ يُرْشِدُ سُبْحَانَهُ فِيهَا إلَى مُدَارِكِهَا وَعِلَلِهَا، كَقَوْلِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: ٢٢٢]

<<  <  ج: ص:  >  >>